حازم صاغيّة

...قريبُنا لاقاني في المطار حاملاً معه جواز سفري، لكنّني لم أجد في ذاك الجواز صورتي التي أعطيته إيّاها. كانت هناك صورة لامرأة كبيرة في الثلاثين أو نحو ذلك، أي أنّها تفوقني حوالى عشر سنوات، وكان في أنفها حلق. كذلك كانت المرأة صاحبة الصورة تلبس الساري وأنا لم أكن حينذاك أعرف كيف يُلبس الساري. لكنْ أيضاً، وهذا هو الأفدح، كان في الجواز اسم غير اسمي: إنّه «رويسي».

وفيما أنا أتلفّت محتارةً وأستجدي تأويلاً لذلك، قال قريبنا دالاًّ بإصبعه: وقّعي هنا. اعترضت بصوت خافت لكنّه لم يسمع اعتراضي. قلت له إنّني أعطيتك صورةً فلماذا لم تستعملها. قلت ذلك في ما يقارب الهمس لأنّ الأمر كلّه غامض في عرفي ومجهول. فأنا لم أكن قد سافرت في الطائرة من قبل، ولا كان أيّ من أهلي قد سافر، فضلاً عن أنّني لم أكن قد جادلت رجلاً أكبر سنّاً منّي. لقد لازمني إحساس بأنّني على خطأ، وهو اكتفى بأن قال لي على نحو جازم: حاولي أن تقلّدي صاحبة الصورة ولا تخافي.

هكذا وقّعت.

بهذا الجواز العجيب عبرت آخر حواجز المطار في كولومبو، وحتّى الآن لا أعرف السبب وراء عدم انتباههم إلى أمر واضح كهذا، أم أنّهم، يا ترى، انتبهوا إلى الفوارق إلاّ أنّ الأمور تجري هناك على هذا النحو إمّا بسبب رشوة أو تبادل خدمات أو لأيّ سبب آخر؟.

على أيّة حال ما لبثتْ أن أقلعت بنا الطائرة متوجّهةً إلى الكويت. والحقيقة أنّني خفت من الطائرة، فأنا للمرّة الأولى أسبح في فضاء معلّق بين السماء والأرض، وفي داخلها كانت تزدحم وجوه كثيرة واجمة ومرتبكة مثل وجهي، وجوهٌ كان خوفها لا يزيدني إلاّ خوفاً. لكنْ ما الذي كان في وسعي أن أفعله وأنا هناك أسبح في الجوّ وفي فراغه؟. ثمّ إنّني أريد أن أساعد أهلي، وهذا وحده ما يُحسب حسابه في نهاية المطاف، فلا يبقى قياساً به أيّ مكان للدلع أو للتردّد. فكيف وأنّ قريبنا الذي رتّب لي السفر أخذ من أمّي 300 دولار، وهو رقم لا يُستهان به لدينا، ينبغي أن يُردّ في أسرع ما يمكن إلى أمّي؟.

لقد امتلأت الطائرة ببنات كثيرات من سريلانكا، من الإثنيّات والأديان كافّة. والمسلمات بينهنّ كنّ كثيرات ربّما لأنّ المسلمة، على عكس غير المسلمة، لا تدفع بدل بطاقة سفر ولا مقابل الفحص الطبيّ الذي يُجرى للعاملة والعامل المهاجرين. فإذا كان الكفيل يدفع عن المسلمة وغير المسلمة إلاّ أنّ مكتب السفريّات في سريلانكا، وأصحاب تلك المكاتب مسلمون، يطلب من الثانية بدل هذه التكاليف ويعفي الأولى منها.

واحدة من المسافرات معي كانت تجلس قربي، فحين شعرتْ أنّني خائفة طمأنتني. قالت لي: أنا تركت أولادي صغاراً. الله يعيننا. ماذا نفعل؟

سفري لم يؤثّر عليّ وحدي، بل أثّر خصوصاً على أخي الأصغر يوسف. فنحن، منذ كنّا صغاراً، نقضي معظم الوقت معاً. كنّا، مثلاً، نلعب باستمرار فنلهو بالقنديل أو نلهو بقطعة «الكيك» على أمل أن يحصل واحدنا على الحصّة الأكبر منها. كان في الأمر جدّ ممزوج بكثير من الضحك، وهو ما جعلنا نتمسّك بهذه اللعبة في السنوات اللاحقة. لكنّ يوسف، منذ سافرتُ، توقّف عن أكل «الكيك» كلّـيّاً حتّى حين تتوافر في البيت.

وصلت الى الكويت فاستقبلني في مطارها رجل سريلانكيّ يعمل في مكتب تشغيل العاملات المهاجرات. خاطبني بالاسم المكتوب على جواز السفر، وهو ما أربكني للحظة، ثمّ قال لي بكثير من الجدّ: عليك أن تعملي بشكل جيّد. كان سمجاً وبارداً ومتشاوفاً في آن معاً، وأحسست في تلك اللحظة أنّها ليست أفضل بداية ممكنة لي في ذاك البلد. كذلك حضر إلى المكتب وكيلي مصحوباً بزوجته، هما اللذان قُيّض لي أن أعمل في بيتهما. سلّما عليّ وقالا كلمات قليلة توحي التهذيب، لم أفهم أيّاً منها، ثم اصطحباني معهما إلى البيت.

الرجل سوريّ وزوجته كويتيّة سبق أن تزوّجتْ من رجل آخر أنجبت منه صبيّاً بات في السادسة عشرة وابنة في الثانية عشرة. لكنّهما، بعد زواجهما، أنجبا معاً ولداً آخر كان يومذاك في الثامنة.

توّجهنا جميعاً إلى منزلهما الذي كان فيلاّ كبيرة من طابقين، حيث عرّفتني السيّدة على غرفتي التي بدت لي جميلة جدّاً ومريحة على نحو لم أعرفه قبلاً في سريلانكا. ذاك أنّ فيها راديو وجهاز تكييف من دونه تستحيل الحياة في الكويت. فالحرارة هنا أشدّ منها كثيراً ممّا في سريلانكا، حتّى أنّ الدم كان أحياناً يخرج من أنفي. وبالفعل سرّني ذلك، لكنّني لم أعرف كيف أعبّر عن سروري وأنا لا أجيد كلمة واحدة باللغة العربيّة. زوجها قال كلمات قليلة بالانكليزيّة فهمتها وأجبته عنها بطريقتي المرتبكة وصوتي المنخفض المتلاشي.

أعطتني السيّدة شنطة كبيرة فيها ثياب جهّزتها لي من دون أن تراني أو تعرف حجمي ومقاسات جسدي. كان فيها دشاديش وثياب داخليّة ومنشفة وأنواع كريم وشامبو وغير ذلك ممّا قدّرتْ هي أنّه يلزمني. أمّا الأغراض التي حملتُها معي من سريلانكا فطلبوا منّي أن أتلفها وأن أرميها بعيداً. ولتوّها طلبت إليّ السيّدة أن أستحمّ مفترضةً أنّني وسخة لا أليق بنظافة بيتها.

مباشرةً بعد انتهائي من الحمّام، جاءت ابنتها التي كانت جميلة جدّاً فحضّرتْ لنا كؤوس شاي، ثمّ سألوني أن آكل بعدما وضعوا على الصينيّة عسلاً وزعتراً وزيتوناً. هذه الصحون أكلت من واحدها لقمة أو لقمتين لكنّني لم أحبّها لأنّني لم أكن معتادة عليها، مع أنّني لاحقاً، حينما ألفتها، بتّ أحبّها كثيراً. حينذاك اكتفيت بشرب الشاي الذي أعرفه.

نمت ليلتي الأولى جائعة وحلمت بأنّ أمّي قد ماتت. كان الحلم أقرب إلى كابوس جعلني أصرخ في نومي ثمّ أستيقظ لأجد نفسي في غرفة غريبة بالكامل. توجّهت الى الحمّام ووقفت قبالة المغسلة. نظرت إلى وجهي ورحت أبكي: فأنا لأوّل مرّة على مثل هذا البُعد من أمّي وأخوتي، لا سيّما يوسف. إنّهم لا يعرفون ما الذي يلمّ بي هنا. إنّني وحدي تماماً.

فكّرت في الاتّصال بأهلي، لكنْ كيف؟. فأنا لا أعلم ما إذا كان مسموحاً لي أن أستخدم التليفون، كما لا أجرؤ أصلاً على طرح مثل هذا السؤال عليهم لما قد يوحي به من وقاحة وتطاول.

بعد ذاك، رحت أتعرّف إلى أنظمة البيت المرعيّة: فهناك كنت دائماً آكل في المطبخ على طاولته الصغيرة، وهم، وفقاً لعاداتهم، يأكلون على الأرض في الصالون، على رغم وجود طاولة الطعام. وهذا ما كان يحيّرني حقّاً، إذ لماذا يأكلون على الأرض وقد أعطاهم الله كلّ هذا الذي أعطاهم ممّا يحتويه بيتهم الكبير والمرفّه؟.

ربّ الأسرة كان قد طلب إليّ بُعيد وصولي أن أغسل سيّارته في السادسة صباحاً من كلّ يوم. وأنا لا أعرف كيف يغسلون السيّارات لكنّني، مع هذا، فعلتها. فهناك، في السادسة صباحاً، كان المشهد يبدو غريباً حقّاً: سريلانكيّون وفيليبينيّون وبنغاليّون، رجالاً ونساء، يتجمّعون في تلك الرقعة الصغيرة ويغسلون سيّارات أهل الحيّ الكويتيّين. كانوا ينتشرون على جانبي البيت وكانوا حوالى العشرين شابّاً وشابّة. سلّموا عليّ كلّهم وابتسموا لي بوصفي وافدة جديدة، وفرحت بهم وجعلت أقلّد ما يفعلون. أمّا هم فلم يبخلوا بجواب لطيف عن الأسئلة التي كنت أضطرّ إلى طرحها عليهم. لقد نشأت بيننا رابطة غسل السيّارات، معطوفة على رابطة الغربة. إلاّ أنّنا، مع هذا، كنا نخشى الذهاب بعيداً في التحدّث واحدنا إلى الآخر، لأنّ ربّات البيوت كنّ ينظرن إلينا من وراء الشبابيك العالية ويتلصّصن، بين الفينة والأخرى، على ما نفعل وعلى مدى تقيّدنا بأوامرهنّ. وكثيرون كانوا قد أخافوني من الحبس في الكويت إذا ما تحدّثت مع أحد من دون موافقة أصحاب البيت، ومن قصّ الإصبع في حال السرقة. لكنْ لاحقاً، حين بتنا نلتقي معاً في مناسبات قليلة، عمّالاً مهاجرين ومهاجرات، كنّا نروح نسخر من ملابس النساء الفاخرة والغالية الثمن، ومن شكّ الفساتين بالذهب ومن الماكياج الذي يستغرق إعداده ساعة كاملة ثمّ التغطّي بالعباءة لدى مغادرة البيت. لم نكن نفهم ذلك بتاتاً، خصوصاً أنّ النساء، بحسب ما نعلم، إنّما يلبسن ويتجمّلن من أجل أن يراهنّ الرجال!

شغل البيت كان متعباً بسبب غرابته وجدّته عليّ. أرض البيت، مثلاً، كلّها مغطّاة بالموكيت، وشبابيكه الكثيرة تستدعي استخدام الهوفر بكثرة، وهذه كلّها أشياء لا وجود لها في بيوتنا بسريلانكا، كما أن شغل البيوت عندنا لا يجري على هذا النحو بتاتاً. لهذا لم أكن أعرف كيف تُنظّف البيوت في الكويت.

إلاّ أنّ المشكلة الأكبر كانت عدم وجود لغة نتخاطب بها ونتفاهم. أمّا مع الأولاد، فكان لطفهم يخفّف عنّي مصاعب سوء التفاهم. كانت نظراتهم ودودة ومتعاطفة حقّاً، وكانوا أحياناً، حين يعودون إلى البيت، يحملون في أيديهم هدايا صغيرة لي.

لقد صارت ربّة المنزل تنادي بنتاً سريلانكيّة تعمل عند الجيران اسمها كوسّامواتي كي تكون وسيطاً لغويّاً بيننا، وكوسّامواتي هذه عاشت أربع سنوات هناك وكانت سعيدة، بحسب ما قالته لي.

بعد ذاك باتوا يرسلونني نصف ساعة يوميّاً إليها من أجل أن تعلّمني العربيّة. لكنّني إذا بقيت معها أكثر من نصف ساعة فهذا ما كان يزعجهم ويستدعي تدخّلهم وأحياناً زجرهم لي.

الرجل، ربّ الأسرة، كان يذهب إلى عمله صباحاً، فيما الأمّ توصل الأبناء إلى المدرسة. فحين يكون الاثنان خارج البيت أروح أنا وكوسّامواتي نتحادث، من وراء سورَي البيتين، عن أوضاعنا وأخبار مراسلاتنا مع الأهل وعن مشاكلي في التكيّف مع الكويت. وبالفعل بدأت، بعد شهرين فقط، أفهم العربيّة وألتقط معاني الكلمات القليلة التي يخاطبونني بها والتي أجيب بها على مطاليبهم. هذا ما سهّل أموراً كثيرة.

هناك لم أكن أغادر المنزل إلاّ يومي الخميس والجمعة، كأنْ أخرج مع العائلة لزيارة أمّ السيّدة أو لغايات مشابهة أخرى. فعند أمّها، كان كلّ أفراد العائلة من أبناء الأمّ وبناتها يجتمعون مصحوبين بخادماتهم الآسيويات اللواتي يتجمّعن في المطبخ أو حوله.

والأكل في الكويت لم يكن مشكلة بتاتاً. فهو كثير ومباح لي، وأحياناً كان الأولاد، ما بين جدّ ومزاح، يحملون لي الطعام إلى غرفتي حتّى أنّني سمنت بعد شهرين وتدوّر وجهي. لكنّ السيّدة كانت قد احتفظت، منذ وصولي، بجواز سفري وبتذكرة الطائرة اللذين سلّمهما لها المكتب. وهما، ومعهما الأولاد، كانوا ينادونني «رويسي»، وفقاً لما هو مكتوب في الجواز، كما طلبا منّي أن أناديهما بابا وماما، فيما كنت أخاطب أبناءهم بأسمائهم. وبابا وماما تسميتان نفرتُ منهما في البداية، إذ هما ليسا أبي وأمّي. لكنّني ما لبثت أن تكيّفت مع التسميتين هاتين إذ هكذا تجري الأمور في الكويت، وما الذي يسعني أن أفعله في مواجهة ذلك ممّا يُطبّق على جميع العاملين المهاجرين بلا استثناء؟

بعد شهرين ونصف الشهر تماماً اصطحبتني السيّدة إلى مصوّر كي يصوّرني من أجل ترتيب إقامتي في ذاك البلد. والأمر مذلّ حقّاً. فهناك يخضع السريلانكيّ والسريلانكيّة، عند إعطائهما الإقامة، للتطعيم بالإبرة فضلاً عن فحص عامّ وكامل للدم والبول وسواهما. لكنّ ما شغلني عن التفكير بذاك الإذلال الذي ينتظرني أنّ السيّدة، وفيما راحت تقلّب جواز سفري، لاحظتْ أنّ الصورة التي فيه ليست صورتي أنا. قالت: هذه ليست أنت. قالت ذلك بتوتّر وغضب مشوبين بالذعر، فأجبت: بلى، هذه أنا. كنت خائفة ومضطرّة أن أكذب حتّى أعيش وأبقى هناك، مع أنّ أمّي كانت دائماً تعلّمنا: لا تكذبي، لا تسرقي، الله يعاقب على أفعال رديئة مثل تلك، أفعالٍ ينهى عنها الإنجيل.

السيّدة أصرّت على أن تأخذني إلى المكتب حيث تعرض قضيّتي لموظّفيه، وهناك قالوا بدورهم: هذه ليست هي. الرجل الذي كان في المكتب كان عربيّاً، وقد ضربني بعصاه على رأس أصابعي فأحسست بألم الإهانة أكثر ممّا بالألم. لكنّ الماما لم تتدخّل إذ اكتفت بالتفرّج، وأنا لم أجد ما أقوله فلذت بالصمت.

في البيت حين عدنا، ناداني زوجها وقال: لا أريد إلاّ أن أعرف الحقيقة. قلت ثانيةً إنّني أنا صاحبة الصورة، وهو طبعاً لم يقتنع. زوجته، الماما، راحت تسوقني المرّة بعد المرّة إلى المكتب للهدف ذاته، فيما كانت تتسمّم العلاقة بيننا في البيت كما قلّت كثيراً الكلمات التي نتبادلها معاً. مرّةً وجدنا، في إحدى الزيارات إلى المكتب، موظّفاً سريلانكيّاً تصرّف حيالي تصرّفاً طيّباً، فطمأنني وعلّمني أن أقول إن هذا جواز سفر أختي لكنّ أختي لا تستطيع أن تسافر بسبب زواجها الذي عُقد مؤخّراً.

كان معاشي حينذاك 30 ديناراً كويتيّاً. لكنْ مرّت ثلاثة أشهر بالكامل لم أقبض خلالها قرشاً واحداً منهم. لم أعرف ما إذا كانت هذه طريقتهم المعتادة في التعامل مع مستَخدَميهم أم أنّهم أرادوا معاقبتي بسبب جواز السفر. صار يلحّ عليّ الإحساس بضرورة أن أدفع لأمّي المال الذي استدانتْه في سريلانكا مقابل إخراج جوازي وتأمين أكلاف سفري الأخرى. سألت الماما عن الأمر، فقالت: اسألي البابا، ومضت في سبيلها غير معنيّة بهذا الموضوع التافه، ثمّ سألتُ البابا، فقال: اسألي الماما، وهكذا دواليك... كوسّامواتي التي علّمتني العربيّة قالت إن الماما لئيمة جدّاً، وروت لي عن فتاة سريلانكيّة سبق أن عملت عندها فحين حان أوان تركها بيتهم أكلوا عليها أجر الأشهر الخمسة الأخيرة من عملها. هكذا يئستْ تلك المسكينة من نيل حقّها ورحلت من دون أن يُدفع لها أيّ ملّيم.

الأمر لم يقف عند هذا الحدّ. فالماما فبركت لها قصّة غريبة: ذاك أنّها طبخت مرّة ووضعت في الطعام قدراً من السمّ ثم سكبت منه صحناً لكوسّامواتي، وبعد برهة وضعت باقي الطعام أمام أفراد الأسرة. وما إن أكلت الماما لقمة، أو تظاهرت بذلك، حتّى صرخت لأفراد أسرتها بأن يمتنعوا عن الأكل، وما لبثوا أن أتوا بطبيب كشف عن وجود السمّ فيه. لكنْ في تلك الغضون كانت الفتاة السريلانكيّة قد أكلت، ولسبب ما لم يقتلها السمّ وإن أمرضها وآلم معدتها. فوق هذا اتُّهمت تلك الفتاة بأنّها هي من دسّ السمّ في الطعام، لكنّ حجّتها بدت قويّة: إذ كيف أرتكب فعلاً كهذا وأنا وحدي الذي بادر بالأكل، كما قالت.

انقضت أربعة أشهر ولم يدفعوا لي شيئاً. صرت أتساءل في سرّي: ماذا عن أمّي وأختي؟ كيف تتدبّران أمورهما؟ كنت أرسل لأخي رسائل لا أذكر فيها شيئاً عن النقود بسبب الحرج الكبير الذي ينتابني؟. لكنّه في إحدى رسائله سألني، هو نفسه، لماذا لا أرسل لهم أيّ مال، فاضطُررت أن أخبره بأنّهم لا يدفعون لي أجري. كتب لي: نحن بخير ولا نحتاج شيئاً، فقط عودي إلينا.

استمرّا يقولان لي بالتناوب في ما بينهما: اطلبي من البابا واطلبي من الماما، لكنّ السيّدة جاءتني فجأة وقالت: سوف ندفع لك بعد 15 يوماً. على أنّ شيئاً رهيباً ما لبث أن حصل قبل الـ15 يوماً الموعودة تلك. فقد وُضع الأكل على الطاولة وطلب إليّ السيّد أن آكل، وفيما أنا أفعل اقترب منّي وأخبرني أنّ امرأته تقول إنّ مبلغ 150 ديناراً قد فُقد من البيت يوم أمس. قلت له: فتّشوا في أغراضي. انبشوها كما تشاؤون... قلت ذلك غاضبة وأضفت بحدّة لم أنجح في لجمها: صحيح أنّني فقيرة لكنْ عندي كرامتي. ثمّ قلت بصوت أعلى أفلت من حنجرتي: ألا يكفيكم أنّكم لا تدفعون لي، وها أنتم، فوق هذا، تتّهمونني بالسرقة!

سألتُ الأولاد بالصوت المرتفع نفسه الذي لم أستعمله في الكويت من قبل: هل أنا حراميّة؟ البنت نظرت بخجل إلى الأرض، وعرفتُ لاحقاً أنّها تشاجرت مع أمّها. أمّا الصبي فخاف الوقوف إلى جانبي فانسحب وتوارى كلّيّاً. قلت لهم: أنا لا أخرج من البيت أبداً، فباشروا الآن، في هذه اللحظة، تفتيشي وتفتيش أغراضي. وبالفعل دخل البابا إلى غرفتي وفتّش تلك الأغراض واحداً واحداً.

حتّى موظّفو المكتب، عندما بلغتهم الشكوى، لم يصدّقوا أنّني سرقت. سألهم واحد من موظّفيه: لماذا لم تدفعوا لها مقابل عمل الأشهر الأربعة الماضية؟ السيّد ربّما دفع للمكتب وربّما لم يدفع، فأنا لم أكن أفهم ما الذي يدور حقّاً في ما بينهم. لكنّ المكتب، في جميع الحالات، لم يدفع لي قرشاً. هكذا لم يبق أمامي إلاّ أن أطلب منهم، في المكتب، في المرّة الأخيرة التي ساقتني إليه الماما، تدبير عمل لي في بيت آخر.

لم أعد معها إلى البيت في ذاك المساء. بقيت في المكتب حيث نمت ليلتين متتاليتين. هناك كان معي خمس فتيات سريلانكيّات وفتاتان إندونيسيّتان. كلّنا أنامونا في غرفة واحدة معتدلة المساحة ليس فيها إلاّ بطانيّات نتغطّى بها. واحدة من الصبايا سريلانكيّة مسلمة من قرية مجاورة لقريتي، ضربها بعنف موظّف عربيّ في المكتب كما دفع رأسها إلى الحائط. هذه الفتاة كانت غيّرت ثلاثة منازل، وربّما كان هذا هو السبب وراء معاقبتها على هذا النحو القاسي والمهين. رحت أبكي متخيّلةً ما يمكن أن يحصل لي هنا، وحاولت أن أفهم من تلك الفتاة السبب وراء ما ألمّ بها، فقالت بصوت أقرب إلى الهمس: إسكتي، إذا شاهدونا نتحدّث أنزلوا بنا الأذى. ينبغي ألاّ نتحدّث بتاتاً في ما بيننا.

لم يكونوا يعطوننا طعاماً في المكتب. على مدى يومين هناك كانت واحدتنا تحصل في نهارها على شاي وعلى قطعة من جبن البيكون وقطعة خبز. لكنْ بعد اليومين هذين، جاءت سيّدة إيرانيّة ومعها زوجها الكويتيّ فنادانا موظّف المكتب، نحن الثماني، واستعرضَنا أمام أعينهما. لقد وقفنا هناك مثل الجدران التي أسندنا ظهورنا عليها، منتظراتٍ القرار الغامض الأخير. ولسبب ما لم أعرفه ولم يفصح أيّ منهم عنه، وقع اختيار الرجل والسيّدة عليّ أنا من بين الفتيات، وهناك ابتدأت قصّة جديدة.

بيت السيّد الكويتيّ والسيّدة الإيرانيّة في مدينة الكويت كان أيضاً فيلاّ من طابقين، وكانت له ملاحق من غرف أجّروا واحدة منها لعائلة سريلانكيّة صغيرة تقتصر على زوج وزوجة فحسب. أمّا الغرفة الثانية فكانا يدخّنان النراجيل فيها، فيما أسكنوني أنا في الثالثة. معهما أقام ابنان شابّان هما حسّان ووسام، وكانت لديهما أربع فتيات، اثنتان منهما تزوّجتا وانتقلتا إلى بيوت زوجيّة فيما مكثت الأخريان، نهلة الشابّة وفاطمة الصغرى، في منزل الأهل ذاته.

وصلت إلى بيتهم مساء في أوّل السهرة. الأكل الإيرانيّ الذي وضعوه على الطاولة أحسسته لذيذاً جدّاً، وهو يشبه أكلنا أكثر كثيراً ممّا كنت آكل في البيت الأوّل. الخبز الإيرانيّ شهيّ، واستخدامهم الجَزَر والأرزّ، فضلاً عن اللحم، مُثير للشهيّة حقّاً. وهم يقدّمون الطعام بوفرة وسخاء. حين أكلت للمرّة الأولى، وكنت آتية من المكتب أتضوّر جوعاً، لم أستطع أن أتوقّف فيما كانوا هم ينظرون إليّ بشيء من الاستغراب والحيرة. ابنتهم الصبيّة، نهلة، البالغة ثمانية عشر عاماً جلت بنفسها الصحون، ثم تحدّثت إلى أمّها فلم أفهم ما تقولانه، لكنّها ما لبثت أن اصطحبتني إلى غرفة فيها سرير وخزانة وجهاز تكييف وراديو، وقالت لي أيضاً إنّ أمّها ستأتيني في الغد ببعض الثياب التي تلزمني. فأنا كنت تركت ثيابي التي أعطتني إيّاها صاحبة البيت الأوّل في ذاك البيت، ولم أحتفظ إلاّ بتلك التي حملتها معي من سريلانكا. السيّدة جاءتني بقميص نوم ابنتها، إذ أنا وابنتها في عمر متقارب وجسمانا متعادلان حجماً كما يجمع بيننا أن شَعرينا طويلان.

هناك، في الكويت، كنت ألبس دشداشة ولا ألبس الثياب العاديّة إلاّ عند الخروج مع العائلة من البيت. وهم كانوا لطفاء معي، وفي إحدى المرّات أتتني الماما الجديدة بحَلق ذهبيّ جميل. ثمّ إنّني لم أغسل السيّارة في بيتهم، بل كنت، في المقابل، أحضّر في الصباح طعام الفطور للأولاد قبل أن يتوجّهوا إلى المدرسة.

أجر الـ30 ديناراً لم يتغيّر، والمعاش هذا هو لجميع مَن هم مثلي في الكويت آنذاك. لكنّهم، هنا في هذا البيت، كانوا يدفعونه في آخر الشهر فأرسله كلّه إلى أمّي بسعادة لا أملك كلمات في وصفها. البابا الجديد، حين علم بوجهة النقود، صار يجيئني بشيك محرّر لأمّي ثمّ أرفقه برسالة أكتبها ويتولّى هو إرسالها بريديّاً إليها. وكان لا يلبث أن يصلني مكتوب من سريلانكا يقول إنهم تسلّموا المال وسرّوا كثيراً بوصوله. ذاك أنّ الـ30 ديناراً تكفي عائلتي كلّها على مدى شهر كامل كما تمكّنهم، فوق إنفاقهم العاديّ، من أن يشتروا بعض الثياب والحاجيّات البسيطة.

في هذه الغضون، وكما هي العادة في الكويت، كان البيت يستقبل كلّ يومي خميس وجمعة جميع الأبناء فيأتون ومعهم خادماتهم السريلانكيّات والفيليبينيّات. هذه كانت علاقتي الاجتماعيّة الأهمّ خارج العائلة وداخل بيتها، وكانت عربيّتي قد تحسّنت في هذه الغضون قليلاً. أمّا الأسرة السريلانكيّة المستأجرة عندهم فكانت تشتري لي حاجاتي من السوق كما كانت تأتيني، بين الفينة والأخرى، بجريدة سريلانكيّة توزّع على العمّال المهاجرين في الكويت. المرأة كانت عاملة تنظيف في أحد المشافي هناك، وزوجها صاحب دكّان يبيع فيه سلعاً وموادّ سريلانكيّة، وهما كانا في أوائل ثلاثيناتهما. لقد صرنا أصدقاء نلتقي ونتحدّث بلغتنا عن بلدنا وعن ذكرياتنا وأمكنتنا هناك، الأمر الذي بدا لي منعشاً كما حدّ من شعوري بالوحدة الموحشة.

وكان في الأمر بعض اللعب أيضاً وإن لم يخلُ من أكلاف ومتاعب. فقد حلّ شهر رمضان في ذاك العام وأنا عندهم، فكان الأكل كثيراً جدّاً في البيت، وكانوا يطلبون منّي أن آكل وألاّ أتقيّد بنظام صومهم وإفطارهم الإسلاميّ. إحدى بنات ربّة المنزل كانت قد سافرت قبل أيّام وتركت خادمتها السريلانكيّة باتيمّا معنا، فصرت أنا وباتيمّا نأكل وفقاً لوجباتنا المألوفة. لكنّ فاطمة، ابنتهم التي في العاشرة، صارت تأتينا إلى المطبخ وتحتجّ قائلة: لماذا أنتما تأكلان بحرّيّة ساعة تريدان وأنا لا آكل؟ لقد راحت تتناول معنا أكلاً سريلانكيّاً، ونحن لم نخبر أمّها بذلك غير مدركين أيّ خطأ نرتكب.

فاطمة كانت متعلّقة بي كثيراً، وكانت تحبّ الأكل، فصارت تحثّني على تناوله وعلى إطعامها كذلك. إلاّ أنّ الأمّ شاهدتنا مرّة فقررت أنّ علينا جميعاً، ومن غير استثناء، أن نصوم ما تبقّى من شهر رمضان. ولأنّنا، أنا والخادمة السريلانكيّة الأخرى، غير معتادتين على هذا النظام، صرنا نأكل أجباناً وما تيسّر حين يغادرون المنزل، وحين نعطش نشرب كوكا كولا بعد أن نخرج إلى السطح كي نفعل ذلك بعيداً عن أعينهم. لكنّ فاطمة ظلّت تأتينا وتسأل وتلحّ: ألا تريدون أن تأكلوا؟ فأجيبها لا، وأؤكّد لها أنّنا، مثل أهلها، صائمون.

وكنّا، أنا وباتيمّا، نتردّد على الزوجين السريلانكيّين المستأجرين في المنزل، فنطلب منهما أن يصوّرانا كي نرسل صورنا إلى سريلانكا، وكنّا نستعير من الزوجة أحمر الشفاه فنصبغ شفاهنا، كما ألبس ثياباً سريلانكيّة أستعيرها أيضاً منها كي لا أبدو، في الصور التي أرسلها إلى أهلي، متخلّية عن سريلانكيّتي. لكنْ مع أن تلك العائلة كانت تقيم في غرفة ملاصقة للبيت، لم تكن الماما تسمح لي بالذهاب إليهم، فكنت أنا وباتيمّا ننتظر خروجها كي نفعل. هناك كنّا نشاهد، على التلفزيون الصغير الذي يملكونه، صور سريلانكا ونسمع أخبارها. وكنّا أحياناً نأكل عندهم معاً، فأعطيهم ثمن موادّ الطعام وهم يتولّون طبخه ثمّ نتناوله سويّة، أو كنّا نحن نطبخ ونرسل الطعام إليهم. لكنْ في الحالات جميعاً، كان ممنوعاً أن يأكلوا عندنا حين تكون العائلة في البيت.

وكانت مغامرة حياتي إبّان عملي هناك أنّني رافقتهم إلى مكّة بأوراق خادمة مسلمة سبق لها أن عملت لديهم. لكنّ المغامرة هذه لم تكتمل إذ أُصبت بالجدريّ فنمت ولم يُتح لي أن أرى الكثير من تلك المدينة المقدّسة. إلاّ أنّ أمّي غضبت حين عرفت بزيارتي مكّة وسألتني باستنكار واتّهام: هل لا تزالين مسيحيّة حقّاً، هل تخلّيتِ عن دينك يا غاوري؟

خلال إقامتي في بيت السيّد الإيرانيّ وزوجته حصل لي حادث أدمى قلبي. فبعد أسابيع قليلة على انتقالي إليهم، اصطحبتني الماما إلى صالون حلاقة ظننتُ أنّني سأنتظرها فيه ريثما تقصّ شعرها أو تمشّطه. كان يمكن أن يخطر لي كلّ شيء إلاّ أن تكون منزعجة إلى هذا الحدّ من غرّة تهبط على جبيني. فأنا، في سريلانكا، كنت قد حلقت شعري بالشفرة فشوّهته وصرت مضطرّة لإبقاء الغرّة سَتراً للمكان الذي أتلفته. وكنت أحاول تفادي نزول الغرّة باستخدام بكلة تعقصها وتحول دون تدلّيها. لكنّهم، في صالون الحلاقة، أمسكوا بي فجأةً وأجلسوني على الكرسيّ، بعد تبادل كلامٍ سريع لم أفهمه، مرفق بإشارات بالأيدي، بين الماما والحلاّق. وإذ ثبّتتني هي في الكرسيّ بجلافة وبشيء من العدوانيّة، أمسك الحلاّق بشعري وقصّه بضربة واحدة من مقصّه الطويل فكان كأنّه يبتر شيئاً من روحي. لقد قصّه قصيراً جدّاً جدّاً كمثل ما يكون عليه شعر الصبيان، وهذا، في بلدي سريلانكا، أمر معيب ومهين للفتاة. رحت أصرخ وظللت طويلاً بعد ذاك اليوم الأسود أبكي، وكان بكائي يتجدّد ويزداد كلّما رأيت الشعر الطويل لابنتها الذي كان يشبه شعري قبل قصّه. ولقد حاولت مداراة الأمر بمنديل لم يعد يفارق رأسي، لكنّ الجرح ظلّ يلحّ طويلاً عليّ، كما ظللت أسأل نفسي: هل قادتها إلى ذلك غيرة منّي على زوجها، باعتبار أنّ الغرّة تغوي، كما يقول البعض، أو أنّ الخادمة لا يحقّ لها أن تبدو جميلة وذات غرّة؟

البنتان تعاطفتا معي وعبّرتا عن ذلك، والابن الأكبر ذهب أبعد من التعاطف، فأعلن استياءه من أمّه وعلا صوتاهما شجاراً. قال لها: هذه قَصّة صبيّ، لماذا قصصتِه إلى هذا الحدّ؟ لماذا فعلت بها ما فعلته؟

كان من الصعب دائماً أن أبقى كما أريد أن أكون. حتّى جسدي نفسه والشكل الذي يبدو عليه لم يكن لي يد فيهما. كنت أودّ، مثلاً، أن ألبس ثياباً سريلانكيّة، لكنّني كنت أدرك أنّ قوّة المكيّف في الخليج تجعل لبسها مستحيلاً، ثمّ إنّ أصحاب البيت لا يسمحون لي أصلاً بأن أفعل ذلك هناك. وأنا، من جهتي، لم أكن أحبّ ثيابهم في الكويت، فهي طويلة تكاد تصل إلى القدمين، وهي واسعة كذلك، ونحن في سريلانكا نلبس التنانير القصيرة والضيّقة نسبيّاً. هكذا صرت أضيّق الثياب التي يعطونني إيّاها قبل أن أرتديها، فلا يعترضون على ذلك إلاّ حين أضيّق الخصر وأكسّمه متجاوزةً ما يظنّونه حشمةً.

قضيت سنة وثلاثة أشهر عندهم إلى أن قررت السيّدة وعائلتها أن يسافروا إلى إيران. هكذا قدّمتني إلى سيّدة مصريّة صديقة لها على أن أبقى معها طوال غيابها الذي يُفترض أن يبلغ الشهرين.

السيّدة المصريّة كان اسمها وفاء، تعمل حلاّقةً وتملك صالونها الصغير للحلاقة، فيما تعيش مع أمّها وابنتها، منّة، البالغة خمسة أعوام. ذاك أنّ زوجها بقي لسبب ما في مصر فكانت تزوره بين وقت وآخر، فيما يبدو أنّها كانت هي من يعيل العائلة. بيتهم كان أصغر من البيتين السابقين اللذين عرفتهما في الكويت، فهم ليسوا ميسورين، لكنّني أحببت وفاء وبيتها أكثر بكثير من ذينك البيتين. وعندما عادت المرأة الإيرانيّة وعائلتها بعد شهرين وطلبت من وفاء أن تعيدني إليها، سألتني عن رغبتي فقلت إنّني أريد أن أبقى عندها وشدّدت على ذلك.

في بيت وفاء كنّا نأكل معاً على الطاولة ذاتها، فأشعر بعلاقة من نوع آخر يخالف الوحشة والاستبعاد اللذين ينتابان مَن يأكل وحده. وهي لم ترفع مرّة صوتها في وجهي، كما أنّ عملي عندها كان بسيطاً وسهلاً جدّاً. فهي حين تذهب إلى الصالون أبقى مع طفلتها في المنزل فيكون عملي أقرب إلى حاضنة أطفال منه إلى خادمة. ذاك أنّ سيّدة أخرى كانت تأتي لتنظيف البيت فأُعفى أنا من هذه المهمّة. وهي كانت تأتيني بثياب وأحذية جديدة، لا بثياب مستعملة، كما تسألني عن ذوقي في ما تشتريه لي قبل أن تشتريه. وهي حين كانت تعطيني نقوداً كي أشتري لطفلتها حلوى وشوكولا، كانت تعطيني أيضاً ما أشتري به لنفسي.

ذات يوم قرّروا السفر إلى مصر وذهبت معهم حيث بقيت هناك ستّة أشهر من دون إقامة شرعيّة. فهذا صعب جدّاً في مصر لأنّ البلد فقير ولا يستطيع سكّانه بسهولة استقدام العمالة من الخارج.

هناك في القاهرة أقام في بيت الزوج ابنه باسل البالغ 12 عاماً، والذي هو ثمرة زواج سابق. وكنت أحياناً أذهب مع وفاء إلى بيت شقيقها الذي استطاع، بطريقة ما، الإتيان بفتاة سريلانكيّة كي تعمل لديه. كنت أتساير معها مثلها مثل باقي السريلانكيّات اللواتي أرسلهنّ الله لي خارج بلدي.

لكنّ وفاء فجأة لم تعد تدفع لي أجري في مصر. وبعد شهري إقامة هناك، عادت هي وأمّها إلى الكويت كي تستأنف عملها، فيما بقيت أنا وابنتها في القاهرة. لقد طلبت منّي ذلك فلم يكن في وسعي أن أرفض لأنّني لا أرفض لها طلباً. لكنّني، مع هذا، تسلّل إليّ شيء من الخوف والريبة. ثمّ بعد شهرين زاد خوفي وريبتي قليلاً لأنّهم سفّروا الابنة إلى الكويت فبقيتُ وحدي في القاهرة مع الزوج ومع نجله باسل.

إلاّ أنّ وفاء بقيت أحسن من جميع الآخرين الذين تعرّفت عليهم في هجرتي أو عملت معهم. كنت أسألها على التليفون عن أجري المتراكم لديها فتجيب بأنّها ستدفع كلّ ما هو مستحقّ لي شرط أن أمهلها قليلاً لأنّ شغلها سيِّىئ في الوقت الحاضر. ولم يفارقني الشعور بأنّها صادقة في ما تقول وفي ما تنوي فعله.

وباستثناء هذا القلق، وهو كبير حقّاً، كنت مرتاحة وسعيدة في مصر. فكما كانت حالي معهم في الكويت، لم يطالبوني بأعمال التنظيف وما يشبهها. فقد كانت سيّدة مصريّة تقوم بهذا، وهم ظلّوا يعاملونني كواحدة من أهل البيت مطلوب منّي الاهتمام بالطفلة فحسب. وفاء، مثلاً، كانت دائمة التنبيه لزوجها أن يعطيني خرجيّةً أنفقها في نزهاتي. لكنّ سوء الظنّ كان يتسرّب إليّ أحياناً فأقول في نفسي: هل تراهم يعاملونني بهذه الطريقة ولا يطالبونني بعمل شيء في المنزل من أجل ألاّ يدفعوا لي في النهاية الأجر المتجمّع؟

زوجها كان وبقي ممتازاً معي، وأنا في بيتهم كنت آكل معهم وآكل ممّا يأكلون. كذلك كنت في القاهرة أغادر المنزل بشكل طبيعيّ، وهو ما لم أفعله في الكويت، ليس لأنّ وفاء منعتني من الخروج، وهي لم تفعل، بل لاعتقادي أنّ ما من شيء هناك يحرّك فيّ رغبة في الذهاب إليه أو في مشاهدته.

سعدت كثيراً في القاهرة، فهي مدينة جميلة جدّاً وأهلها طيّبون. في واحدة من فرصي قمت، مع مجموعة فتيات سريلانكيّات وفيليبينيّات، برحلة نهريّة في نهر النيل، كما ذهبت إلى مدينة ناصر حيث ركبت الحصان وأخذت صوراً لا أزال أحتفظ بها إلى اليوم. ومرّةً قصدت الأهرامات التي بدت لي غريبة بقدر ما هي فاتنة وعظيمة.

في أحد الأيّام التقيت هناك فتاة سريلانكيّة قالت لي إنّ ثمّة عائلة أميركيّة في القاهرة تبحث عن خادمة تعمل لديها. فرحت لهذا الخبر لكنّني لم أُرد أن أهرب من بيت وفاء لأنّني أحبّها وأحبّ عائلتها ولا أريد بتاتاً أن أخونهما. هكذا تلفنت لها فقالت لي أن أذهب إذا شئت ذلك. بيد أنّ مسألة كهذه لا تخلو من عقد وإشكالات. فهي حين سفّرتني من الكويت إلى مصر، كان عليها أن تدفع للسفارة السريلانكيّة في الكويت غرامة قيمتها 150 دولاراً مقابل ذلك، على أمل أن تستعيد هذا المبلغ لدى العودة. هكذا قالت لي وفاء: اذهبي حيث تشائين، لكنّني أريد من تلك العائلة الأميركيّة أن تدفع لي ما دفعته مقابل انتقالك إلى مصر، فيما تعهّدتْ مجدّداً أن تدفع لي ما هو مستحقّ عليها.

اخترت ألاّ أذهب إلى العائلة الأميركيّة، إلاّ أنّني طلبت من زوج وفاء أن يوصلني إلى السفارة السريلانكيّة في القاهرة. فالناس هناك يتّصلون بالسفارة للاستعلام عن خدم من سريلانكا، وعن تعقيدات الإقامة وصعوباتها، فيما السريلانكيّون والسريلانكيّات المقيمون في مصر يلتقون في سفارتهم فيتسلّون ويتبادلون الكلام والأخبار عن بلدهم كما يقرأون جرائده المتوفّرة.

واحدة هناك التقيتها في السفارة دبّرت لي شغلاً قالت إنّه يؤمّن لي 200 دولار شهريّاً مقابل أن تتقاضى منّي، لمرّة واحدة، عمولة من 50 دولاراً. لكنّ العائلة تلك فاجأتنا إذ دفعت لي 250 دولاراً في الشهر، فارتأت السيّدة السريلانكيّة أن أدفع لها 100 دولار بدل الخمسين، إلاّ أنّني رفضت واعتبرت أنّها تبتزّني.

هكذا تركتُ عائلة وفاء، غير أنّني تركتها مكسورةً وحزينة فعلاً. لكنْ بعد تركي لهم بأسابيع جاءت السيّدة من الكويت وأعطتني كلّ نقودي المستحقّة كما سلّمتني جواز سفري. وأنا حتّى الآن أحبّها وأحبّ عائلتها وأحتفظ بصورهم، وإن انقطع الاتّصال بيننا إثر مغادرتي القاهرة فلم نلتق بعد ذاك.

ربّ العائلة التي انتقلت إليها في القاهرة كان صاحب معمل متوسّط. كنت أناديه، هو وزوجته، بمستر ومدام. ففي مصر، لا وجود للبابا والماما لحسن الحظّ.

المستر كان اسمه صبري والمدام فاتن، وهما مسيحيّان قبطيّان، لديهما صبيّ في العاشرة اسمه فادي. لكنّهما كانا يعيشان في بيتين منفصلين، وأنا عشت في البيت الذي تقيم فيه فاتن. هنا، في ميدان التحرير، كانت تسكن معنا أيضاً والدة المدام وهي مدرّسة تكميليّة. إلاّ أنّهم في الصيف كانوا جميعاً ينتقلون إلى فندق صغير في مدينة الاسكندريّة.

صبري هو مَن أتى بي إلى بيت زوجته ومَن كان يدفع لي أجري. وهو أحبّ ابنه حبّاً جنونيّاً، فكان يزور البيت دائماً حيث يمكث قليلاً معه. أمّا فاتن التي تملك محلاً لبيع المفروشات البيتيّة، فكانت جميلة جدّاً تشبه الممثّلة المصريّة نبيلة عبيد.

وكوني مسيحيّة مثلهما لم يستوقفهما بتاتاً، إذ كانوا لطفاء مع الجميع بغضّ النظر عن الدين والمذهب. لكنّهما كانا يذهبان معاً، رغم افتراقهما، إلى الكنيسة أيّام الآحاد، وإلى أديرة وأمكنة دينيّة في المناسبات والأعياد، وأحدُ تلك الأمكنة الذي نسيت اسمه كان يبعد قرابة ساعة ونصف الساعة عن القاهرة. وإلى ذاك المكان الجميل والمؤثّر غالباً ما كانا يصطحبانني فيصلّيان هناك وأصلّي معهما.

كان أكثر عملي عندهم كيّ الثياب وترتيب البيت الصغير والاهتمام بحاجاته. فالشغل، في النهاية، بسيط وقليل هنا أيضاً. وكنت أُنزل ابنهما فادي كلّ صباح إلى الطريق حيث تمرّ سيّارة المدرسة وتأخذه، كما كنت أصطحبه إلى بيت أبيه حين يزوره. لكنّ فاتن وأمّها كانتا حين تغادران البيت تقفلان الباب عليّ، وهي عادة لم تعد تزعجني لكثرة التعوّد عليها في الكويت. على أنّهم في أيّام الآحاد كانوا يعطونني فرصة للخروج بتّ أقضيها في السفارة السريلانكيّة. كنت أغادر صباحاً وأعود في السابعة أو الثامنة مساء، وكانوا يزوّدونني لهذا الغرض خرجيّة، كما يوصلونني بأنفسهم أحياناً إلى السفارة. وهناك، في السفارة، كنت ألتقي سريلانكيّات فنتساير معاً ونقضي بعض الوقت، أو نخرج في مشاوير ونزهات يتخلّلها مرور على محلاّت ومطاعم ومخازن ألبسة، أو توقّفٌ، يطول أو يقصر، عند واجهاتها الجميلة والمزركشة.

عند هذه العائلة بقيت أقلّ قليلاً من سنتين، من دون أن تتوافر لي إقامة شرعيّة، مثلي في ذلك مثل كلّ السريلانكيّين والسريلانكيّات المقيمين هناك. وفي هذه الغضون، لم يكن تحويل النقود عملاً سهلاً، نظراً إلى تعقيداته الكثيرة في مصر يومذاك. كنت كلّ ثلاثة أشهر أو أربعة أرسل ما بين 300 و400 دولار لأهلي كما أشتري بعض هدايا صغيرة لأخوتي: ساعة يد مثلاً أو سلسال ذهب أو ثياباً أو خاتماً لأمّي وحذاء لأخي الأصغر، وكان المستر صبري من يتولّى إرسالها بنفسه.

وذات يوم مرضت أمّي وتلفن لي أخي من سريلانكا قائلاً إنّها تشعر بأنّها ستموت وإنّها تريد أن تراني وتلحّ في طلب ذلك. رحت أبكي بلا انقطاع وكنت أريد أمّي بإلحاح وأودّ أن أصل إليها ولو مشياً على الأقدام. لكنّ المشاكل كانت لي، كالعادة، بالمرصاد: فبسبب من لا شرعيّة إقامتي كان تركي مصر يعني دفع الكثير من المال على شكل رشاوى تُوزّع هنا وهناك. قلت لنفسي: لا بأس بدفع الرشاوى، وفعلاً دفعت 1700 دولار هي معظم ما كنت قد جمعته حتّى ذاك الحين. الزوج أهداني بطاقة السفر وزوجته أهدتني ثياباً كثيرة وسلسالاً ذهبيّاً، وتوجّهت أخيراً إلى بلدي.

وصلت إلى سريلانكا وليس معي إلاّ 400 دولار والهدايا الصغيرة التي اشتريتها لأخوتي. لكنّ أمّي، لحسن الحظّ، كانت قد احتفظت بما بين 600 و700 دولار من الدفعات التي سبق أن أرسلتُها إليها، وقد أودعتْ هذا المبلغ في بنك يبعد نصف ساعة بالباصّ عن بيتنا. لقد كنّا محظوظين لوجود ذاك البنك في القرية، إذ البنوك قليلة في أرياف سريلانكا، وهناك واحد لكلّ ثلاث قرى أو أربع. وبسبب هذه النقود تمكنّا لاحقاً من أن نعقد قران أختي وأن نحتفل بعرسها.

أمّي وجدتُها مريضة جدّاً، والسبب أنّ مشاكل وقعت بين جارين لنا في الحيّ رافقها تراشق بالحجارة. ولمّا كانت تقف قريباً منهما أصابها حجر كبير في قدمها أدّى إلى كسرها. هكذا أحاطوا الجزء الأسفل من رجلها بالجصّ وظنّوا أنّ الأمور لا بدّ أن تتحسّن ولو بشيء من البطء والتدرّج. إلا أنّها، وكما علمت في ما بعد، بدت نافدة الصبر فخافت كثيراً وتوقّفت كلّيّاً عن تناول الطعام. بعد ذلك لم تعد تتكلّم إلاّ نادراً أو بالاشارات فحسب، فيما لا تكفّ عن الإيحاء بأنّ قلبها يؤلمها وأنّها سوف تموت سريعاً جدّاً. لقد تعافت في النهاية، لكنّني وجدتها وهي لا تزال بالغة الضعف، الأمر الذي أبكاني كثيراً.

على أنّني عوّضت ذلك بأنّني، بعد هجرة دامت ثلاث سنوات، بتّ بين أهلي وأخوتي الذين كبروا. ها أنا أعود مجدّداً إلى المكان الذي أنا منه والذي لم يزدني التغرّب عنه إلاّ تعلّقاً به. لقد سررت كثيراً وهم سرّوا بي وبعودتي، وصاروا يقولون لي إنّني «تحلّيت» قاصدين أنّني صرت أقلّ اسمراراً وأشدّ بياضاً. لقد صاروا يقولون: نحن أيضاً نريد أن نذهب إلى البلدان العربيّة كي نبيضّ.

لكنّ ما حصل لي بين المطار والبيت كان له أثر أكبر على حياتي اللاحقة. فالوقت الذي تستغرقه السيّارة بين المكانين نحو ثلاث ساعات. ولأنّ التاكسي أجرتُه باهظة، تقاسمت أنا وفتاتان سريلانكيّتان عائدتان مثلي سيّارة أجرة واحدة. إلا أنّ السائق لم يستطع، لاتّباعه خطّاً مستقيماً لا يحيد عنه، أن يوصلني الى البيت. هكذا أنزلني في مكان غير بعيد عن قريتي، على أن أستقلّ من هناك سيّارة أجرة صغيرة، أو ما نسمّيه، نحن السريلانكيّين، أوتو، أي درّاجة ناريّة تجرّ خلفها سيّارة صغيرة موصولة بها تنهض على ثلاثة دواليب. وفي الطريق مع سائق الأوتو، حيث استغرقت الرحلة نصف ساعة، أو نحو ذلك، أحسست بعطش قويّ، فأعطيته ثمن قنينتي «فانتا» كي يشتريهما. لكنّه رفض أن يشتري قنينة له ورمقني بنظرة فيها مودّة وشكر وتعاطف.

الرجل سنهاليّ، لكنّه كان يتحدّث إليّ بتاميليّة لا لكنة فيها، كما لو أنّه تاميليّ مثلي. أمّا أنا فمضيت أتحدّث معه في كلّ ما يعرض لنا إلى أن قاطعني على نحو مفاجىء بقوله: أنتِ جميلة...، فلذتُ بالصمت، ثمّ سألني أن أذهب معه إلى المطعم كي نتناول وجبة الغداء سويّةً. قلت له إنّني أكلت في الطائرة، كما أنني أرجّح أن يكون أهلي قد حضّروا لي مآكل يعرفون أنّني أحبّها، فإذا كان في وسعي أن آكل فسوف آكل حتماً في البيت. قال إنه أحبّني كثيراً، فأجبت، بقليل من الاكتراث، بأنّ الشبّان دائماً ما يقولون هذا الكلام للبنات.

حين أوصلني إلى أمام منزلنا، طلب منّي أن أبقى معه قليلاً لكي نحكي، كما قال. وبدا طلبه هذا مستغرباً جدّاً نظراً إلى تلهّفي الذي لم أُخفه لرؤية أمّي وأخوتي. حاولت أن أدفع له أجرته، وكانت 300 روبية على ما أذكر، فرفض. وبعد مشاحنة قبل أن يأخذ مني 200 فقط. لكنّه حين هممت بالنزول وبمغادرة سيّارته، قال: ألا تدعينني إلى بيتك؟ قلت: تفضّل، وما كنت أستطيع، شعوراً منّي بالحرج الاجتماعيّ، أن أفعل سوى ذلك. في تلك اللحظة نفسها رآني أخي يوسف فصرخ: لقد جاءت أختي... لقد جاءت أختي... وبدأ أفراد العائلة يتوافدون تباعاً ويتجمّعون حولي في البيت. أهل القرية أيضاً شرعوا يتوافدون إلينا حيث جعل واحدهم يخبر الثاني بعودتي من المهجر البعيد.

لقد كان هذا حدثاً كبيراً عندنا، خصوصاً أنّني كنت رابع شخص يسافر من أبناء القرية إلى خارج سريلانكا. وفعلاً أحسست أنّني اشتقت كثيراً إلى هذا العالم وإلى هؤلاء الناس، إلى كلامهم وروائحهم ومآكلهم، بينما راحوا في البيت يقدّمون الحلوى والشاي للضيوف. أمّا السائق فاكتفى بتناول الشاي ثمّ ودّعنا. لكنّه، بعد ذاك، صار يكثر التردّد إلى بيتنا، بسبب ومن دون سبب، زاعماً أنّه يوصل ركّاباً إلى مكان قريب منّا.

اسمه كان رانجي، وهو ما لبث أن صار زوجي. بيد أنّ ذلك جاء مسبوقاً بزواج آخر حصل في بيتنا.

في هذه الغضون كانت صحّة أمّي قد تحسّنت إلى حدّ بعيد، وإن بقي مشيها صعباً قليلاً. أهل العريس أتوا أوّلاً طالبين يد أختي التي بلغت الثامنة والعشرين وبدأت تكبر على سنّ الزواج المألوف في سريلانكا، ثمّ كُلّفتُ أنا وأخي يوسف أن نتوجّه في زيارة ردّ الرِجل إليهم. وإنترا، أختي، هي في مظهرها وفي سلوكها خجولة جدّاً كما أنّها محافظة جدّاً، لا تظهر على الضيوف ولا تضيّفهم الشاي الذي تعدّہ في المطبخ كما لو أنّه سرّ يستدعي التكتّم عليه. وهي، فوق هذا، سريعاً ما تبكي لأتفه الأسباب وأقلّها معنىً. لقد عملت في صناعة الشاي حيث كانت تساعد الوالدة ولم تذهب بتاتاً إلى المدرسة، وعن أيّ سؤال كانت تُسأله تعوّدت أن تجيب: مثلما تريد أمّي، أو مثلما تريدون، أو الرأي لكم.

وبالفعل ففي قصّة زواجها كانت هي آخر من كان له رأي فيها: ذاك أنّ أخي الأكبر راجي إندرام سأل أناساً في القرية عمّا إذا كان هناك عريس محتمل لها فدلّوه على أحدهم. بعد ذاك اتّصل به أخي وأوحى له بأنّها مستعدّة لكي يطلب يدها. هكذا حضر إلى بيتنا مصحوباً بسبعة رجال ونساء من أقاربه، ومن جهتنا حضر للقائهم خالي وبعض أقاربنا أيضاً.

في تلك اللحظة، حين صار الأمر جدّاً، انتحيت جانباً بأختي وسألتها ما إذا كان قد أعجبها العريس المحتمل، وهو كان حسن المظهر، فقالت: مثلما تريدون أنتم، إذا أنتم أحببتموه أحببته أنا. قلت لها بعد رحيله ورحيل أهله: عليك أن تفكّري في الأمر، فهذا زواج، وقد يكون الطلاق بالغ الصعوبة في حال فشله في المستقبل.

أهل العريس سألوا عمّا سنقدّمه لهم من مال ومن هدايا، فقلت لهم إنّني سأهدي أختي سلسلة ذهب وهناك النقود التي كانت قد حفظتها أمّي في البنك، فيما تعهّد أخي الأكبر بشراء محبس الزواج لها.

رانجي، بدوره، أتى إلى عرس أختي من دون أن ندعوه إليه، وقد ظلّ على مدى سنة أو أكثر قليلاً يزور بيتنا دوريّاً. في هذه الغضون كنت أنا في البيت لا أعمل، أنفق من مال أمّي التي عادت إلى العمل بعد تحسّن صحّتها وبعد أن صرفت عائلتنا جميع مدّخراتها على عرس أختي.

آنذاك انتابتني رغبة في الرجوع إلى الكويت، لأنّ استحالة الحصول على تأشيرة مصريّة تمنعني من أن أحلم بالعودة إلى مصر. ذاك أنّ أوضاعنا لا يجب أن تستمرّ على حالها هذه، كما لا يليق بي أن أعيش إلى ما لا نهاية عالة على أمّي. لكنّ رانجي بات يلحّ عليّ بأن أبقى في سريلانكا وأن نتزوّج في أسرع وقت ممكن.

أحياناً كان ينام عندنا في البيت، لكنْ في الغرفة التي ينام أخي يوسف فيها، من غير أن نعرف عنه إلاّ ما يتبرّع هو بإخبارنا إيّاه. عرفت مثلاً أنّه أصغر منّي بسنة واحدة، وأنّه ترك قيادة الأوتو وصار سائق فان كبير يجني منه فلوساً أكثر. فمن أصل كلّ 50 دولاراً يتقاضاها من زبون يحتفظ بعشرين فيما يعود الباقي الى الشركة التي تستخدمه. قال لي أيضاً إنّه مستعدّ أن يساعد عائلتنا ماليّاً، وبالفعل كان حين يزورنا في السهرات يحمل معه وجبة عشاء لنا جميعاً يشتريها من مطعم مجاور.

لم نكن نخرج معاً، أنا ورانجي، إلى أمكنة تخلو من الناس لأنّ هذا، في أعرافنا، مرفوض قبل الزواج، وهو يتسبّب في إطلاق الألسنة بحقّ الضحيّة السهلة. كنّا نبقى في البيت، لكنْ حين يغادر الآخرون ونظلّ وحدنا، كان يقوم إليّ ويقبّلني ليعود بسرعة إلى حيث يجلس. وهذا أيضاً عمل ممنوع لدينا يُشعرني بخجل لا أستطيع دائماً أن أخفيه أو أتكتّم عليه.

أمّي التي لم تكن تحبّ رانجي لأنّه سنهاليّ، كانت ترفض أن تأكل من المآكل التي يأتي بها إلينا، لكنّ أخي راجي إندرام قال: لا بأس به فهو طيّب على رغم أنّه سنهاليّ.

كان رأي أمّي أنّ الحكومة في يد السنهال، فإذا اختلفنا كزوجين، أنا ورانجي، فإنّهم سوف يقفون معه ضدّي بغضّ النظر عن الحقّ وعمّن يملكه. كانت تقول لي: سافري واعملي في الخارج كما عملت قبلاً. وأنا كنت أخبرهم دائماً، وأخبر الجيران، بالقصص التي حصلت معي في الكويت ومصر، وأصف لهم ما رأيت في البلدين ممّا كان يستهويهم ويسلّيهم. ولأسباب تشبه أسباب أمّي، لم يكن خالي مرتاحاً إلى فكرة زواجي من رانجي.

كنت محيّرة وغير حاسمة، لكنّني قلت في نفسي: هذا نصيبي في هذه الدنيا على ما يبدو. وما لبثت أن أقدمت عليه.

لم نُقم عرساً بل تزوّجنا في البلديّة حيث لبسنا المحابس، فيما تمنّعت أختي عن المجيء لأنّ رانجي سنهاليّ، فضلاً عن أنّه، كما اكتشفنا لاحقاً، بوذيّ الديانة أيضاً. لقد أقمنا حفلة في البيت قاطعتْها هي وزوجها، كما قاطعها أولاد خالتي كلّهم من دون استثناء. أمّا خالي الذي لم يكن من الممكن أن يغادر البيت لأنّه صاحبه، فلم يكن مسروراً بالأمر على رغم حضوره الزواج. أخي الأكبر تمسّك بموقفه المختلف وقال: هي أختنا، أكنّا موافقين على الزوج أم لم نكن، وينبغي أن نقف في جميع الأحوال معها. ما أخافَ أخي أنّ الكثيرات كنّ ينتحرن في حال زواجهنّ واستمرار غضب الأهل عليهنّ.

تزوّجنا، أنا ورانجي، واستأجرنا بيتاً لنا يبعد نصف ساعة بالسيّارة عن بيت أهلي، يقع وسط منازل مبعثرة ومتباعدة في القرية. كنت سعيدة جدّاً وكان رانجي يسلّمني كلّ فلس يتقاضاه. وحياتنا بدت جميلة وهانئة، فكنّا غالباً ما نذهب سويّة إلى المطاعم والسينما، وهو كان دائماً كريماً معي. لقد أحبّني كثيراً وحرص على تكريم أهلي بأن يشتري حلوى نأخذها لهم معنا حين نزورهم، وغالباً ما كنّا نزورهم.

هكذا مرّت سنة وأكثر قليلاً على هذه السعادة التي نسيت معها ما كان مؤلماً من أيّام اغترابي، فيما طويت نهائيّاً فكرة العودة إلى الكويت، أو إلى أيّ بلد آخر. ها أنذا سأعيش أخيراً في بلدي وبين أهلي.

وفي هذه الغضون حبلتُ بابنة كان وحامها بالغ الصعوبة، فكان رانجي يقطع المسافات البعيدة كي يأتيني بالمانغا وبالأناناس اللتين كنت أطلبهما. أحياناً كنت أطلب البطّيخ أيضاً، وهو ما تعرّفت إليه في البلدان العربيّة ولم يكن معروفاً كثيراً في سريلانكا، فكان لا يكفّ عن سؤال الناس وعن البحث والتفتيش إلى أن يأتيني بالبطّيخ. أيّ ملبس كنت أطلبه كان يجيئني به، أمّا المآكل التي كنت أطبخها فكان يقول إنّها أطيب من أكل أمّه. وهذا كلام يصعب أن تسمعه زوجة من زوجها في سريلانكا، وربّما في أيّ بلد آخر.

قبلذاك كان رانجي يأكل في المطاعم لكنّه توقّف عن ذلك حين أقمنا معاً. وأنا، بدوري، لم أكن آكل حتّى لو بلغ بي الجوع مبلغاً إن لم يحضر ليجلس معي على الطاولة. لقد أحببته حبّاً لم أعرفه من قبل لشخص من غير عائلتي.

لكنْ حين دخلت شهري التاسع انتقلنا إلى بيت آخر أقرب إلى بيت أهلي. الطبيب كان قد حدّد لي موعداً تقريبيّاً للولادة لكنّ الموعد مرّ ولم ألد، فأبقوني في المستشفى الرسميّ. كنت أنا وزوجي نريد صبيّاً، لكنّني ولدت بنتاً، فأحببناها بطبيعة الحال. أبوها سرّ بها كثيراً وأخي الأكبر امتلأ فرحاً واشترى وعاء لاستحمامها. لقد جاء لونها فاتحاً لا غامقاً كاللون السائد في سريلانكا. ونحن أعطيناها اسماً سنهاليّاً هو سومودو كوماري، وصرنا نغنّجها بابي.

بتّ أشعر بعد الولادة بالتعب فراح زوجي وأخي يتبادلان، بلطف بالغ، حمل الطفلة عنّي. أختي التي لم تنجب، جاءت إلينا أيضاً. في هذه الغضون كانت علاقتها برانجي، الذي تصرّف معها دائماً بكلّ لياقة وأدب، قد تحسّنت. أمّي وأخي أراداني أن أبقى قريبة منهما، وهكذا مكثنا هناك قرابة ستّة أشهر قال لي رانجي بعدها إنّه آن أوان الرجوع الى بيتنا.

وانتقلنا إلى بيتنا فعلاً، لكنْ هناك ما من أحد يساعدني، كما أنّ الكهرباء لا تتوافر لدينا إذ نعيش على ضوء القنديل. حتّى الحصول على الماء ليس سهلاً هناك. لهذا كان رانجي يعبّىئ مسبقاً السطول والقناني البلاستيكيّة التي سنحتاجها طوال النهار قبل أن يغادر المنزل إلى عمله. وفوق هذا، أنا لا أستطيع أن أغادر البيت بتاتاً فيما يكون هو في عمله، إذ على مَن أترك طفلتي بابي؟ وهو في مرّات قليلة كان لا يعود ليلاً إلى البيت، فينتابني خوف غامض لا سيطرة لي عليه. لهذا كلّه قلت له إنّني أريد أن أبقى قريبة من أهلي، وحين استجاب لطلبي عدنا إلى الإقامة في بيتهم.

لقد تبدّدت تماماً الصورة التي ارتسمت عند عائلتي عن رانجي. فقد بدا لهم، منذ بدايات تعرّفهم إليه، شخصاً غريباً محيّراً ربّما كان يخبّىئ شيئاً ما. وجاء زواجنا ليعزّز هذا الانطباع السيّىئ: فقد أدهشنا أنّ أهله، الذين قال لنا إنّهم سيحضرون وإن واحداً منهم سيكون وكيله في الزفاف، لم يأتوا لحضور الزواج. وقد تساءل أفراد عائلتي يومها عمّا إذا كان أقاربه قد عرفوا بالزواج من أصله. لقد جاء معه بشخصين فحسب قال إنّهما أخواه، لكنّهما ما لبثا أن اختفيا تماماً من حياته وحياتنا.

هذه الصورة امّحت من أذهاننا جميعاً، واستمرّ كلّ شيء على أحسن ما يرام حتّى جاء ذاك الصباح الغريب. كنّا مجتمعين، كعادتنا كلّ يوم، لتناول الفطور، وكانت ابنتي يومذاك لا تزال في شهرها السابع أو الثامن. وفجأة دخلت امرأة لا أعرفها، ولا يعرفها أحد من أهلي، ومعها بنتٌ طفلة. تقدّمتْ باتّجاه رانجي وأمسكت به بشدّة من قبّة قميصه ثمّ راحت تضربه وتشتمه. وهو مثلنا فوجىئ بها وبما تفعله، أو أنّه تظاهر بالمفاجأة، لا أدري، لكنّه لم يفعل شيئاً في المقابل. أنا هجمت عليها وهززتها وكنت أوالي الصراخ بصوت مرتفع وغاضب: من تكونين أنتِ؟ أنتِ مجنونة. أنت لعينة... إلاّ أنّها نظرت إليّ نظرة قويّة ومركّزة وقالت: أنتِ المجنونة واللعينة، لا أنا، إنّه زوجي... جعلتُ أرتجف فانتزعتْ أمّي طفلتي منّي وأبعدتْها عن الصراخ والمشاجرة الدائرين.

بعد لحظة استعدت فيها توازني، تذكّرت حادثة عابرة لم أنتبه لها حصلت قبل شهرين من تلك الزيارة. يومذاك، وابنتي في شهرها السادس أو السابع، أخذناها في نزهة بالباصّ حيث وجدنا تلك المرأة إيّاها جالسة على أحد مقاعده. إنّها نفسها. وقبيل نزولها في المحطّة التي أرادت بلوغها، ركضت صوب طفلتي مثل المجنونة، وبكثير من السرعة التي تُشاهد في أفلام السينما، دهنتْ رأسها بالزيت وهرولت مبتعدة عنّا. فما إن نزلنا في محطة تالية حتى راحت ابنتي تتقيّأ بلا توقّف.

المرأة تلك بوذيّة الديانة، مثل رانجي، تؤمن بالتمائم والتعاويذ. وأنا استعملت لابنتي كلّ الثياب التي كنت أحملها معي، وكنت أحمل الكثير من الثياب كاحتياط لتبوّلها أو تقيّوئها أثناء الرحلة، لكنّها تقيّأت عليها كلّها ولم تترك قماشة وحيدة نظيفة.

تلك المرأة كانت أكبر بعشر سنوات من زوجي الذي يكبرني بسنة واحدة، وهي يتيمة لا أهل لها قضت طفولتها وشبابها في ميتم. وقد دبّروا لها عملاً في معمل بونبون حيث تعرّف عليها رانجي الذي كان يشتغل سائقاً وينقل أغراضاً من المعمل وإليه. يوم زواجه منها كان عمر رانجي 18 سنة، وهي كانت تهتمّ به وتأتي له بالطعام والشراب وحاجيّات أخرى. وقد قال لي لاحقاً، حين سألته عنها، إنّها كانت حبلى من رجل غيره يوم تعرّفه إليها، فلم يكن ثمّة بدّ من الزواج لكي يسترها ويصونها.

على أيّ حال راحت تلك المرأة تكرّر زياراتها إلينا مصحوبة بالغضب وبالنقمة إيّاهما وبما يلازمهما من صراخ. لكنّ البنت، بنتها، تشبه زوجي كثيراً وهو ماضٍ في إنكاره لا يتزحزح. ولأنّنا، نحن التاميل، نؤثر عدم رفع صوتنا عالياً، بسبب كوننا أقليّة مجبولة بالحذر جيلاً عن جيل، كانت زياراتها وصراخها تجعل بيتنا مثيراً لانتباه الجيران جميعاً. السنهاليّون، على عكسنا، يرفعون أصواتهم بكلّ حرّيّة وعفويّة بسبب ثقتهم بأنفسهم، وعندما سمع جيراننا السنهاليّون صراخها وكلامها الاتّهاميّ لي صاروا يكرهونني، ظانّين أنّني، أنا التاميليّة الشريرة، مَن فرّق بينها وبين زوجها الذي صار زوجي.

لقد كانت ضعيفة البنية وقصيرة لكنْ قويّة، وهي راحت تهدّدني بالقتل مشيرةً بسبابتها إليّ، فيما رانجي يقول لي محاولاً التهدئة: إنّها مجنونة، انسي الموضوع ودعيها لشأنها... أمّه كانت على علم بالأمر، لكنّها كذّابة أخفته تماماً عنّي. أكثر من هذا، كانت الأمّ تكرهني، ربّما لأنّني تاميليّة وغير بوذيّة، وقد سرقتْ منّي ذهباً قليلاً كنت أحتفظ به، فحين رفض رانجي أن يتدخّل في الأمر اضطررت أن أخبر الدرك بذلك.

كنت أسأله: أصحيحٌ أنّها زوجتك؟ فيجيب بأنّها كذّابة وأنّها أخت امرأة أخيه، وكلّ ما تريده منه هو أن يتزوّجها. وقد عرفت أنّ ذلك غير صحيح بالكامل لأنّني جمعت معلومات عن عائلة رانجي لم تطابق أبداً ما كان يرويه لي. كذلك عرفت في ذاك الوقت أنّه أعطى الشخصين اللذين حضرا معه زواجنا بعض النقود لكي يحضرا، وأنّه طلب منهما أن يقولا إنّهما أخواه. وهذا ما فعلاه.

بعد ذاك جاءتنا المرأة تلك بالأوراق الرسميّة التي تثبت أبوّة رانجي للبنت التي تشبهه كثيراً. الحجّة كانت دامغة حقّاً، وفوق ذلك نبّهني انكشاف الأمر إلى شيء آخر: فكيف ترك ابنته هكذا، وما ضمانتي، والحال هذه، ألاّ يتركني أنا وابنتي أيضاً في وقت لاحق؟ صرت أخاف منه وقد صارحتُه بخوفي هذا وقلت له: لماذا لم تقل لي الحقيقة، فأجاب بأنّه لو فعل ذلك لما كنت قد تزوّجته أصلاً. حينها قلت له إنه كذّاب وإنّ من الصعب عليّ أن أعيش مع كذّاب.

المرأة تلك رفعت عليه دعوى تتّهمه فيها بتعدّد الزيجات. وفعلاً حضر أفراد من الدرك إلى بيتنا وسألوا عن رانجي فيما كان آنذاك في الشغل. لكنّهم في النهاية أوقفوه ونقلوه إلى الزنزانة. فالدركيّون من السنهال، وهم يتشدّدون معه لتركه امرأة سنهاليّة واقترانه بي أنا التاميليّة.

رانجي لم يخفْ من الدركيّين بل شتمهم وقال بصوت مرتفع إنّني أفضل من ألف امرأة، سنهاليّة أو غير سنهاليّة. وقتها، أنا كنت أبكي في مخفر الدرك حائرةً ومعذّبة ومهانة، لا أجد كلمة واحدة أتفوّہ بها.

إطلاق سراحه استلزم رفع دعوى قضائيّة، لكنّ تكاليفها وتكاليف المحامي باهظة في سريلانكا. أمّي قالت أنْ ليس معها فلوس وأقفلت الموضوع كما لو أنّها تتمنّى له البقاء في السجن. أمّا أنا فكان لا يزال معي بعض أساور الذهب التي جئت بها من الكويت، كما استدان أخي الأكبر نقوداً، وبهذا وذاك سدّدنا جميع أكلاف الدعوى. فأنا كنت، على رغم ما حصل، لا أزال أحبّه، ولهذا سامحته على كذبه، وكنت مستعدّة أن أساعده بكلّ ما أستطيع.

لقد عاد رانجي الى البيت، لكنْ بات عليه أن يدفع ألفي روبيّة شهريّاً كنفقات لعائلته السابقة وإلاّ فإنّه سوف يعاد ثانية إلى الزنزانة. أنا، بدوري، لم أعد أملك أيّ فلس، لكنّني، فوق هذا، بتّ مضطرّة أن أقتصد كثيراً في إنفاق النقود التي يسلّمني إيّاها بحيث أوفّر، كلّ آخر شهر، المبلغ الذي سوف يُدفع للمرأة الأخرى. وهي، من ناحيتها، ظلّت تزورنا بالوتيرة نفسها، مصحوبة بغضبها وبصراخها الدائمين.

وبالتدريج راح رانجي يكثر من شرب الويسكي حتّى بات مستسلماً له بالكامل، لا ينقطع عنه تقريباً.

حين تجاوزت ابنتي سومودو كوماري السنتين تردّت علاقتي برانجي تردّياً بعيداً وبدأت المشاكل بيننا تتكاثر وتتشعّب. صارت ممارسته الجنس شبه مستحيلة، وكنت أقول له إنّ الحياة ليست كلّها جنساً وإنّني مستعدّة أن أتحمّل الأمر معه لأنّني لا أزال، على رغم كلّ شيء آخر، أحبّه. إلاّ أنّه صار يكابر ويتساخف ويقول إنه يزور بنات هوى وينجح معهنّ في ما لا ينجح فيه معي. صار يأتي كلّ ليلة سكراناً إلى البيت ويفتعل لي مشكلة لأصغر الأسباب وأتفهها، وأنا بالتدريج غدا حبّي له يفرغ ويقلّ، حتّى أنّني صرت لا أحسّ بالراحة والأمان إلاّ حين يغيب عنّي. كان يصل سكراناً رائحته رائحة ويسكي قويّة، فيشدّني من شعري ويضربني كفوفاً ويؤلمني. أنا لم أكن أضرب في المقابل، بل أصرخ وأقول له لا أريدك، أريد أن آخذ بنتي فحسب وأن نعيش، أنا وهي، بعيداً عنك...

ولمفاجأتي الكبيرة فإنّ أمّي، التي لا تحبّه، صارت تطالبني بألاّ أطلّقه، وأحياناً كانت تطلب منّي مغادرة بيت خالي والذهاب أنا وإيّاه إلى مكان آخر فلا يحصل الشجار على مقربة منها. كان يزعجها إعطاء صورة سيّئة عن الزواج لإخوتي وإزعاجهم إبّان نومهم، وهذا علماً بأنّني لم أكن أخبر أهلي إلاّ بالقليل ممّا يحصل بيننا.

خالتي أخذتني مرّة إلى البصّارة، مع أنّني لا أؤمن بالبصّارات ولا أصدّق أقوالهنّ. كان مطلوباً منّي أن أدسّ كميّة من النقود الورقيّة بين أوراق وضعتها البصّارة أمامها وأن أصمت تماماً كما لو أنّني أصلّي في قلبي، فيما هي تنظر بتركيز إلى الحائط المقابل لها، لا إليّ أنا. والغريب في تلك الزيارة لم يكن هنا، بل في أنّ البصّارة روت قصّة العلاقة بيني وبين زوجي كلّها ولم تخطىئ في أيّ واحد من تفاصيلها، ثمّ قالت إنّني أنا التي سأتركه في النهاية وليس هو من سيتركني. وهي أكّدت لي كذلك أنّ البنت من زواجه الأوّل هي بنته، وأنّ ما من شك ّلديها في ذلك.

بيت البصّارة كان في مدينة كاندي، وقد بدا صغيراً جدّاً ومنزوياً، لكنّه يكاد لا يختلف في شيء عن سائر البيوت عندنا. وهي هندوسيّة أقامت في داخله مزاراً صغيراً تنبعث منه رائحة كثيراً ما تشبه رائحة البخور، ما يضفي عليه قدراً بعيداً من السحر والغموض. بيد أنّ ما جعلني أصدّقها أنّ خالتي لا تعرف قصّتي الحقيقيّة، وما من شكّ في أنّ البصّارة لا تعرف رانجي. فمن أين لها إذاً بتلك المعلومات التي راحت تخرج من فمها؟

تركت زوجي في 1998 وكان عمر ابنتي بابي ثلاث سنوات فحسب. رميت له ثيابه وصوره وكلّ ما يتعلّق به إلى قارعة الطريق، وكنّا لا نزال نقيم مع خالي وأمّي. وحينما رفض أن يغادر البيت هددته بجلب الدركيّين كي يسوقوه إلى السجن.

وكي أبتعد ما أمكنني عن المنزل ذهبت إلى كولومبو حيث عملت، فيما تركت سومودو كوماري مع أمّي كما أودعتها مدرسة أطفال تؤويها إبّان ذهاب الوالدة إلى العمل. لكنّ ابنتي صارت، كلّما رأت أهلاً يأتون لاصطحاب أبنائهم إلى البيت من الحضانة، أو يحملون لهم هدايا، تبكي وتقول: أريد أبي... أريد أبي... وكان بكاؤها هذا يستغرق وقتاً طويلاً قبل أن يتوقّف.

صرت، حين أزور القرية، آخذها لترى أباها في مركز شغله، لكنّنا لم نكن نجده هناك. ومرّة أضعتها في الباصّ فوجدها رجل مُسنّ أرجعها إليّ. في تلك اللحظات، حيث استولى عليّ خوف لا أعرف كيف أصفه، كدت أفقد عقلي فقرّرت أن أوقف البحث عن رانجي لأنّه لا يستحقّ هذا العناء كلّه.

في كولومبو عملت عند سيّدة سنهاليّة تملك معمل خياطة صغيراً، خالها كان جارنا في القرية. كنت أعمل في قصّ الخيطان، وهو ليس بالعمل المتعب إذ يقوم على تكرار حركة واحدة من الثامنة صباحاً حتّى الخامسة مساء. لكنّني شعرت بسعادة غامرة هناك. فالسيّدة بدت بالغة اللطف ولديها ابنة أصغر من ابنتي بقليل. كان عليّ أن أستأجر غرفة في المدينة فيما أَجري متواضع جدّاً لا يزيد عن 40 دولاراً في الشهر، وهذا مبلغ لا يكفي لذلك، فما كان منها إلاّ أن أعطتني غرفة وسريراً. وشيئاً فشيئاً أصبحتُ جزءاً من العائلة فكلّفتني بأمور الطبخ لهم ثمّ طلبت منّي ألاّ أذهب إلى المعمل وأن أبقى في البيت أهتمّ بالطبخ وبابنتها فحسب.

هناك في كولومبو بقيت ستّة أشهر كاملة، لكنّ رأيي في المدينة لم يتغيّر كثيراً. فأنا لم أحبّها إذ الحياة فيها صعبة، وعلى عكس قريتنا ما من شيء إلاّ يقابله ثمن يُدفع أو جهد يُبذل. هناك كنت دائمة الشوق إلى ابنتي، أشتري لها أغراضاً وهدايا، وكانت السيّدة التي أعمل عندها تدفع ثمن ما أشتريه على أن تحسمه من معاشي في آخر الشهر. إلاّ أنّني كنت، حين يأتي آخر الشهر، أتقاضى معاشي كاملاً غير منقوص. وحين تركتها بكت وأبكتني، بعد أن طلبت منّي أن أبقى معها، خصوصاً أنّ ابنتها أحبّتني وأولعت بي.

قبل سفري إلى كولومبو كنت أنوي الانتقال إلى سنغافورا للعمل فيها. فقد قيل لي إنّ المال كثير هناك، وإنّ التاميليّين كثيرون أيضاً. ذاك أنّ سنغافورا، في نظر السريلانكيين، بلد غنيّ وجميل ومرتّب، لا يتعرّض فيه العامل الأجنبيّ للشقاء والإهانة. والسنغافوريّون، بعد كلّ حساب، يشبهوننا. لكنّ واحداً من أقاربي قال لي إنّ الحصول على تأشيرة سنغافورا والسفر إليها يكلّفان مالاً كثيراً، ونصحني بأن أذهب إلى بيروت التي وصفها بأنّها مدينة جميلة جدّاً وأنّ أهلها طيّبون وكرماء.

وهكذا كان، فانتقلت في 2001 إلى لبنان بعد أن دفعت 400 دولار ثمناً لتذكرة السفر. كذلك طلب منّي قريبي الذي يدبّر الأمور 50 دولاراً مقابل أوراق قال إنّها ضرورية جدّاً لسفري. وهنا، في تلك اللحظة، اكتشفت أنّ قريبنا الآخر الذي سبق أن دبّر لي رحلتي إلى الكويت، ضحك عليّ حين أخذ يومها من أمّي 300 دولار مقابل عمل مماثل.

كان هناك خطّ جويّ مباشر من كولومبو إلى بيروت، وقد ضمّت الطائرة المليئة بالركّاب مختلف الجنسيّات وإن كانت الأكثريّة من السريلانكيّين والسريلانكيّات. وبوصولي إلى مطار بيروت كان في انتظاري الكفيل اللبنانيّ الذي يُفترض أن أعمل عنده مقابل 100 دولار شهريّاً، فاصطحبني برفقة سائقه. لكنْ قبل ذلك، ومع نزولي من الطائرة، ظهر شخص ينادي على السريلانكيّين والسريلانكيّات طالباً مَن يحملون منهم «فيزا خادمٍ» أو «خادمة» أن ينتحوا جانباً. وفعلاً جمعوا جوازات سفرنا كلّها ونقلونا إلى غرفة زجاجيّة كما صاروا ينادوننا بأسمائنا الكاملة، وفقاً لما هو وارد في الجواز، بعد أن يتأكّدوا من أنّ الكفيل قد زوّدهم بالاسم المعنيّ.

كان لا بدّ من إجراءٍ آخر هو حقن مَن يزور لبنان للمرّة الأولى بإبرة، من دون أن يفسّر أحد لنا ما هي تلك الإبرة المطلوبة أو ما هي الجرثومة التي يُفترض بتلك الإبرة أن تكافحها. وهذه تجربة كنت قد تدرّبت عليها في الكويت، عند طلب الإقامة، حيث كانت أشمل وأقسى.

الكفيل كان لطيفاً ودافئاً. سألني عن اسمي وعمّا إذا كنت أريد أن أشرب بيبسي كولا أو مشروباً مرطّباً آخر، وبدا لي أنّه شخص مهمّ ونافذ لأنّني حين كنت في الغرفة الزجاجيّة لمحته، ولم أكن أعرف أنّه كفيلي، فبدا محطّ اهتمام الآخرين الذين يقتربون منه كي يصافحوه ويتحدّثوا إليه. لقد كان قاضياً كما علمت بعد قليل. كلّمني بالانكليزيّة ثمّ تركنا، أنا والسائق، بعد أن كلّفه بإيصالي إلى بيت «الماما» في الجبل. ومن المطار اتّجهت بي السيّارة في دروب صاعدة وملتوية إلى هناك، بحيث دوّختني الطريق قليلاً. فعندما وصلنا فتحت المرأة العجوز، التي هي «الماما»، الباب لنا، وسارعتْ إلى تضييف السائق قنينة بيبسي فيما لم تضيّفني شيئاً.

«الماما» لم تنظر إليّ أصلاً ولم تسلّم عليّ ولم تكلّمني بتاتاً. لقد بدوتُ لها مثل أيّة حشرة من الحشرات التي تسعى في حديقتها الملاصقة للبيت. إلاّ أنّ هذا كان محتملاً بالقياس إلى ما راح يتكشّف من سلوكها مع مغادرة السائق البيت. إنّها الأعاجيب التي تُحكى في حكايات الأطفال عن جنّـيّات شريرات.

لقد دلّتني الأمّ، كما لو أنّ أنفها مليء بروائح كريهة، إلى غرفتي التي كانت باردة جدّاً، وكنّا يومها في تشرين الأوّل. وما لبثت أن حضّرت لنفسها فنجان شاي كنت أتلهّف إلى مثله، ثمّ جمعتْ ثفالة الشاي وصبّت عليها ماء فاتراً وملعقة سكّر وأعطتني إيّاها كي أشربها. كذلك ناولتني سندويش جبن مالح وقالت لي بقرف: كليه واذهبي الى سريرك. لم أكن جائعة أصلاً لأنّني تناولت وجبة طعام في الطائرة، لكنّ الشاي للسريلانكيّ يبقى مسألة حياة وموت. وفيما نحن في هذه الحال دخلت ابنتها التي أرسلها أخوها إلينا كي تتفقّدني، وكانت تحمل في يدها خبزاً افرنجيّاً ومارتديلاّ. الأمّ لم تُرد لها أن تراني فقالت لابنتها إنّني نمت وإنّني لا بدّ غفوت. لكنْ ما إن وقعت عينا ابنتها عليّ، وكنت منزوية في واحد من أطراف الغرفة البعيد، حتّى تقدّمت مني وقبّلتني وكلّمتني بلطف بالانكليزيّة، ثم قالت إنّها تريد أن تحضّر بنفسها سندويشاً لي.

أخيراً، ها هي بادرة إنسانيّة تصدر عن أهل هذا البيت، لكنْ سريعاً ما تدخّلت الأمّ اللئيمة على نحو حازم وقالت إنّني سبق أن أكلت. بعد ذاك قالت لي الابنة إنّني إن لم أرغب في النوم، ففي وسعي مشاهدة التلفزيون في غرفة الجلوس. لكنّني، وقبل أن تتدخّل أمّها، واستباقاً لذلك، قلت إنّني أريد أن أنام.

في اليوم التالي جاء الابن فقلت له إنّني لا أريد أن أعمل هنا. قال إنّني جزء من العائلة، وكلّ مَن يُفترض بي أن أهتمّ بهم هم أمّه العجوز وهو العازب وحدهما. ثمّ أضاف أنّه لا يجيء إلى البيت إلاّ متأخّراً جدّاً في الليل، أي أن عبئه عليّ سيكون خفيفاً جدّاً. وهذا الذي قاله قد يكون صحيحاً، لكنّ المسألة، مسألتي معهم، لم تكن هنا بتاتاً.

في أوّل يوم أحد يمرّ عليّ هناك، تجمّع كلّ أفراد العائلة لتناول الغداء معاً في بيت الأمّ، وهذه واحدة من عاداتهم الأسبوعيّة. لكنْ بعد أن غادروا جميعاً رفضت العجوز إعطائي أيّ طعام ممّا أكله أفراد عائلتها. إنّه تجويع فعليّ ما كان في وسعي أن أصدّقه لو لم يحصل معي أنا، أو لو أخبرني عنه أيّ شخص آخر.

في الأيّام العاديّة، وفيما نكون وحدنا، أنا وهي، في البيت، لا تسمح لي إلاّ بأكل البطاطا والبيض المسلوقين. مرّةً قلت لها: أريد أن آكل، إنّني أبقى جائعة عندكم...، فقالت: وهل في سريلانكا أكل؟، ومضت في طريقها.

تلك العجوز كانت تتفنّن في تعذيبي. كانت تأمرني، مثلاً، بألاّ أنظّف المرحاض بالعصا، بل بيديّ وبالاسفنجة فحسب. فكنت، في ذاك البيت، أبكي باستمرار، خصوصاً أنّني بالكاد استطعت التحدّث الى ابنها القاضي نظراً إلى قلّة الوقت الذي يقضيه معنا، وإلى كثرة انشغاله في مكتبه حتّى حين يكون في البيت. مرّةً أصررت على أن أتبادل كلمة معه فناداني، بشيء من التعالي، إلى مكتبه، لكنْ تبيّن لي أن أمّه سبق أن طوّقت كلّ كلام قد أقوله بأن أخبرتْه بأنّني لا أحبّ شيئاً من أكلهم، وأنّني لا أقصد من أفعالي إلاّ مناكفتها. وهو فهم من أمّه، على ما يبدو، أنّني أريد أكلاً سريلانكيّاً، وأنّني ناقمة بسبب عدم توفّره عندهم، فقال إنّه مستعدّ أن يأخذني الى السوبرماركت حيث أختار منها ما أشاء. ولأمر ما جبنت وتلعثمت فلم أجرؤ على أن أخبره بالحقيقة.

كنت أبكي وأبكي فتقول الأمّ حين تراني: دفعنا عنك ألفي دولار يا لعينة، فأنت لا تستطيعين إذاً أن تتركينا وأن تذهبي إلى مكان آخر. في البيت عُلّقت صورة كبيرة ليسوع كنت أقف أمامها وأبكي وأطرح على المسيح بعض أسئلتي وهواجسي. وهي كانت تسألني حين تراني أفعل ذلك: ماذا تقولين لله، وهو أيضاً نفس السؤال الذي كانت تواجهني به حين تصطحبني معها للصلاة في الكنيسة أيّام الآحاد. كنت أجيب: هنا لا أحد يسمعني، أريد أن يسمعني الله على الأقلّ.

الأمّ كانت في الثانية والسبعين، أُجريت لها عمليّة سرطان استؤصل بنتيجتها أحد نهديها. لكنّها كانت تتصرّف معي كما لو أنّني أنا من تسبّب لها بذاك السرطان. ففي بيتهم يبدأ نهاري بالتجويع وينتهي بالتجويع كذلك. لا فطور لي، مثلاً، لأنّ ما من شيء على الاطلاق يوجد في الثلاّجة. كنت أحضّر قهوة نيسكافيه صباحاً، ثمّ أشربها في غرفتي التي هي أصلاً كاراج المنزل في الطابق السفليّ. ومساحة الغرفة تلك لم تكن تتعدّى الثلاثة أمتار بمترين، ملحَقٌ بها حمّام صغير وفيها نافذة بالغة الصغر تطلّ على الخارج. لكنّ بابها كان يُقفل ويفتح مركزيّاً عبر زرّ كهربائيّ موجود في الطابق الأوّل حيث تقيم العجوز. فهي التي كانت تكبس الزرّ كي يتاح لي الخروج منها، وبهذا تتحكّم بحركتي كلّيّاً. أحياناً كنت أقف على الشبّاك فأصرخ أو أغنّي لا حبّاً بالصراخ أو الغناء، بل لأنّني صرت أتلهّف إلى سماع صوتي أو إلى أن يقع على أذن أحد فيجيبني، وبهذا يتاح لي أن أسمع صوت شخص آدميّ. صرت أقف أمام المرآة وأكلّم نفسي، وبالفعل بتّ أخاف من أن أُصاب بالجنون أو بشيء من هذا القبيل. وضعتُ صورة ابنتي سومودو كوماري أمامي في الغرفة بعد أن جعلت من أطراف إحدى بطاقات عيد الميلاد إطاراً لها، وصرت أحدّث ابنتي وأقول لها: ماما هنا تعيش وحدها، وأين أنت؟ وكنت أحسّ أنّ ابنتي تسمعني وتضحك لمجرّد أنّها تضحك في الصورة المقابلة.

فوق هذا كانت غرفتي باردة لأنّها في الطابق السفليّ، وليس فيها أيّة تدفئة غير بطانيّة ممزّقة أعطتها لي كي تقيني برد الليل. وحين أريد الاستحمام كانت لا تأذن لي إلاّ بسطل من الماء الفاتر، لا الساخن، فما إن أوصله من الطابق الأعلى إلى غرفتي حتّى تبرد ماؤه. هناك بدأ التكلّس في عنقي ويديّ ممّا تطوّر لاحقاً وصار يؤلمني كثيراً.

في الشهرين الأوّلين حوّل نجلها القاضي معاشي كاملاً إلى سريلانكا، وظللت أقول له كلّما أتيحت لي فرصة اللقاء العابر به: لم أعد أستطيع تحمّل أمّك أكثر ممّا تحمّلت حتّى اليوم. وهي، بدورها، كانت تشكوني إليه من دون انقطاع، وأظنّها كانت تؤلّف له قصصاً كثيرة من نسج خيالها.

وهم أصلاً لم يكونوا يعرفون اسمي ولا اكترثوا بمعرفته. كانوا، لسبب ما، ينادونني «ماهي» ولا يتركون لي أيّة فرصة كي أصحّح لهم خطأهم، وأنا نفسي لم أشعر بضرورة المبادرة إلى ذلك. كلّهم كانوا ينادونني بهذا الاسم: الأمّ وابنها وابنتها وابنها الأصغر الذي كان طبيب أسنان.

مرّةً، وفيما كنت أشطف الأرض دلقت الأمّ سطل الماء كلّه على الأرض. لقد فعلت هذا متعمّدةً من أجل أن تضاعف شغلي وتعبي. وحين احتججت على ما فعلته، وكان ابنها لحظتذاك حاضراً في البيت، راح يصرخ بغضب: أكاد أجنّ من مشاكلكما. أنتما تدفعانني إلى الجنون... لكنّني حين شتمتْني أمّه وأجبتها بمثل شتيمتها تدخّل بغضب ضدّي رافعاً سبابته ومحرّكاً إيّاها في وجهي: لا تقولي هذا الكلام للماما مرّة ثانية. صرت أصرخ من نافذة غرفتي بالانكليزيّة: يا إلهي، يا ناس، ساعدوني، افعلوا شيئاً، وأروح أكرّر هذه المناشدة مرّة بعد مرّة. وحين لحق بي النجل إلى غرفتي لإخماد تلك الفضيحة، قلت له: هل هناك ما هو أكثر إيلاماً من الموت. أنا أريد أن أموت الآن لأنّ الموت أهون عليّ. يكفيني هذا الذي عانيته على يد أمّك. أنا لا أريد بتاتاً أن أشتغل عندها...

توقّفتُ كليّاً لبضعة أيّام عن تناول الطعام، كما استنكفت عن العمل ومكثت في غرفتي لا أصعد أبداً إلى الطابق الأعلى. صرت مثل خشبة بلا روح ولا قدرة على الحركة، أيّة حركة. وهي، بدورها، صارت تهدّدني بإرسالي إلى المخفر فيما يتملّكها الخوف من أن أموت من الجوع وأن أتسبّب لها بمشكلة وبفضيحة في وقت واحد. أتى ابنها وشدّني بقوّة من يدي يريد أن يدفعني إلى المطبخ من أجل أن آكل. ثم جاؤوا إلى البيت بدركيّ سألني: شو بكِ وليه؟ وساقني إلى المخفر بينما أنا ماضية في بكائي وفي إبداء حركات احتجاجيّة من يديّ. لم أكن أعرف ما هو المخفر من الداخل، إلاّ أنّني وجدتني في زنزانة صغيرة مع قنينة ماء وسندويش. وأيضاً لم آكل هناك. مسؤول المخفر ما لبث أن تقدّم نحوي وسأل عن ذنبي، فأجابه الدركيّ بأنّني عنيدة وأنّهم يخيفونني فحسب، فطلب المسؤول هناك أن يُطلَق سراحي. لكنّهم، قبل ذلك، اتّصلوا بالقاضي فحدّثني عبر التليفون وسألني بصوت يجمع بين الجفاف والابتزاز: هل تأكلين إذا أطلقناكِ، فقلت نعم. عندها أعادني الدركيّ إلى البيت اللعين ذاته.

هناك، في ذاك الوقت القصير الذي قضيته في الزنزانة، فكّرت في نفسي وفي ما يمكن أن أفعله للتخلّص من هذا الجحيم. قرّرت أن أغيّر خطّتي، بأن أطمئنهم وأتظاهر أمامهم بأنّ الأمور مستقرّة وعلى أحسن ما يرام، على أن أهرب في مجرّد أن أنجح في طمأنتهم.

هكذا ما إن عدت إلى البيت حتّى طلب منّي نجلها أن أقبّل رأسها ففعلت بطيبة خاطر ظاهريّة، كما رسمت ابتسامة مفتعلة على شفتيّ. وهي، بدورها، حضّرت لي صحن عجّة كأنّها تمارس حيالي سخاء طارئاً ومستجدّاً على علاقتها بي. لكنّني، وقد انتحيت بالصحن جانباً، أحسست بصعوبة أن آكل من يد تلك المخلوقة اللعينة. كان كلّ عضو في جسدي يرفض ذلك ويهدّدني بالتقيّؤ. تظاهرت بأنّني آكل لكنّني خفيةً عنها رميت البيض في سلّة النفايات، ولم أظنّ أنها سوف تنظر في تلك السلّة، إلاّ أنّها ما لبثت أن فعلت. فحين اكتشفتْ أنّني رميت عجّتها سارعت، بطريقة هستيريّة، في استدعاء ابنها الذي كلّمني بشراسة هذه المرّة، كما أمرني بأن أبقى في البيت وألاّ أنزل مطلقاً إلى غرفتي. أفلتّ منه ثمّ صعدت الى السطح بقصد أن أنتحر، لكنّه لحق بي وأمسك بيدي وشدّني بها بعيداً عن السطح ثمّ ضربني بقصد أن يهدّئني، وقال: أنت مجنونة، ألا تفكرين بابنتك؟. حدّثني بالانكليزيّة، لكنْ لأنّ أمّه لا تفهمها زادت قناعتها بأنّه، على رغم كلّ شيء، يتواطأ معي ضدّها.

لم تتوقّف مناورات الأمّ ولم تتعب. فبعد محاولة انتحاري الفاشلة تصرّفتْ كما لو أنّها تستكثر عليّ بعض التعاطف، فتظاهرتْ بأنّها مريضة جدّاً وأنّها في حاجة إلى دخول المستشفى فوراً. وبالفعل نقلوها إليه وصار مرضها المتجدّد محور اهتمام أهل البيت كلّهم.

كتبتُ، في هذه الغضون، رسالة لابنتي بابي قلت لها فيها إنّني سأموت حتماً وإنّها سوف تصبح في الغد القريب بلا أمّ ولا أب. قلت لها، في ما يشبه الوصيّة، إنّ عليها العيش مع خالتها التي لم تنجب أولاداً، والتي ستتولّى تربيتها وتقوم، بدلاً منّي، بالاعتناء بها. لكنّني بمجرّد عودة أفراد الأسرة من المستشفى، استجمعت من القوّة ما سمح لي أن أقول للنجل الأكبر: سفّروني أو أبدلوني بخادمة أخرى. ومجدّداً رفضتْ الأمّ طلبي بعناد مستخدمة الحجّة نفسها، وهي أنّهم دفعوا المال عنّي وأنّ عليّ، بالتالي، أن أبقى عندهم. لقد فعلتْ ذلك بقوّة لا تشبه ضعف من يخرج، قبل لحظات، من المستشفى. فهي تريد أن تبقيني إلى جانبها حبّاً منها بتعذيبي، وهذا ما أكّد لي، مرّة أخرى، أنّ لا حلّ لي في نهاية المطاف إلاّ الموت، وربّما الصلاة والبكاء في انتظار حلول ذاك الموت الموعود.

لا أدري كيف أتاني هذا الإلهام بأن أترك ساقوطة درفة الباب التي يمكن تثبيتها في الأرض مرتفعة قبل أن تقفل العجوز عليّ درفته المتحرّكة. هكذا بات ممكناً أن أفتح الباب من الداخل.

حصل ذاك الاكتشاف في فجر يوم أحد سعيد، فنظرت من الشبّاك إلى الخارج وكأنّني قد كسبت العالم كلّه بتلك النظرة. الجيران كانوا جالسين في حديقتهم يدخّنون النرجيلة ويتسايرون، فانتظرت ساعة على قلق شديد راح بعدها الجيران يختفون تباعاً. الساعة آنذاك كانت السادسة بالتمام. خرجت وسلكت طريقاً لا أعرف إلى أين تقود، ولم يكن يهمّني أن أعرف...

جزء من نصّ أطول.

 




      © 2014  كلمن. جميع الحقوق محفوظة.
نشرة كلمن

نسيت كلمة المرور

أدخل عنوان بريدك الالكتروني:
     
سيتم إرسال كلمة سر جديدة الى صندوق بريدك.
ملفات تعريف الارتباط

لاستخدام سلة الشراء ومكتبة كلمن، يجب تشغيل ملفات تعريف الارتباط (cookies) في المتصفّح الذي تستخدمه‫.‬ ان كنت لا تعلم ما هي ملفات تعريف الارتباط (cookies)، الرجاء مراجعة قسم المساعدة في متصفّحك‫.‬