بالكاد أذكر مروى التيس وجرجي السليق اللذين ماتا فيما أنا أعبر السادسة إلى السابعة. لكنّ موتيهما استقرّ في مكان من النفس لم يبارحه مذّاك، رغم أنّهما حادثان لا يتّصل واحدهما بالآخر إلاّ اتّصال الوقوع في زمنين متقاربين. لكنّ شيئاً أخر جمع بين رحيل مروى ورحيل جرجي هو اختلافهما عن وفيّات الناس العاديّين. ومثل هذه كثيراً ما تتكرّر في القرية، حيث يُقرع فجأةً جرس كنيسة ولا نلبث أن نعرف أنّ فلاناً مات. وفلانٌ غالباً ما يكون الموت قد أتاه بالتدريج، فأعجزه الهرم والشيخوخة وأقعداه في بيته. فحين يُقرع جرسه ويقال إنّ عينيه أغمضتا إغماضتهما الأخيرة، يأتي الخبر عديم الإثارة، وأحياناً يتبدّى كأنّه تنفّس الصعداء. ولا أكون أبالغ إن قلت إنّ القرية كانت دائماً خزّاناً لميتات عاديّة تلمّ ببشر عاديّين يُحرَمون القصّة والسرد، ولا يستدعون سؤالاً.
(1)
لقد بدا لي اسم مروى التيس عجيباً. فالمألوف أن تُطلق على الناس أسماء الحيوانات المعروفة بقوّتها وجمالها معاً، ما يصحّ في «السبع» و«النمر» اللذين يستدرجان التشبّه بهما، وصولاً إلى «الذئب»، أو «الذيب»، الذي ربّما ذكّر بوحشة الريف وقسوته القديمة. أمّا التيوس والضباع فمستبعَدَة، يطردها مزيج من الغباء والبشاعة المقيمين فيها، بحيث تغدو التسمية بها إهانة للمسمّى. مع هذا، كان يقال إنّ مصدر التيس مردّہ إلى عناد عُرف به زوج مروى لازمه غباء متمكّن، وهذا ما تسبّب في إعطاء عائلته اللقب المذكور.
كذلك كان شكل مروى، الذي أذكره بشيء من زيَغ البصر والذاكرة، على قدر من الغرابة. فهي سمينة جدّاً، بل ربّما كانت أسمن نساء القرية الجانحات في معظمهنّ إلى السمنة. واختلافها هذا جعلها بطيئة المشي، تكاد أطرافها، وهي تتقدّم وتهتزّ، يستقلّ واحدها عن الآخر، الأمر الذي أوحى بأنّ مرضاً يلمّ بمروى. فجدّتي، مثلاً، كانت تقول إنّ «الصحّة هالقدّ مش منيحة»، وكانت أخريات في القرية يتوقّعن لمروى قعوداً لا قيامة بعده.
لكنّهنّ كنّ يرون أنّها طيّبة ومسكينة، وأنّها لا تهتمّ لشيء في الدنيا إلاّ لابنها الوحيد. فهي لم تُشاهد مرّة على السعادة التي شوهدت بها يوم عرسه قبل أقلّ من عام، حتّى أنّها، يومذاك، رقصت رقصاً بدت معه رشيقة الحركة كأنّها خفيفة الوزن. والبعض في القرية كانوا يبالغون في التأويل، فيذهبون إلى أنّ عذاباً شديداً كان زوجها التيس يُنزله بها، وأنّ العذاب هذا ما جعلها هكذا. فهي لم تشعر بالراحة إلاّ بوفاته التي حصلت قبل عامين.
وعلى العموم فإن الأشياء التي كانت تُقال عن مروى قليلة ومتفرّقة. لكنْ فجأةً قيل إنّها... انتحرت.
وهذا تعبير لم أكن قد سمعته من قبل، فحين سألتُ جدّتي التي أقلقها الخبر كما أدمع عينيها، أجابتني بأنّ مروى ذهبت إلى الساحل وصارت تمشي في البحر وتمشي وتمشي ولم تعد. لقد أُخرجت جثّةً من البحر.
وأشكّ الآن في أن تكون جدّتي نفسها على بيّنة من معنى للانتحار يتعدّى إماتة المنتحر نفسه بنفسه. ذاك أنّ الوصف السرديّ الذي اعتمدته لا يوحي باستحواذها على المعنى، بل يسمح بالقول إنّها استعاضت بسرديّته الملغزة عن المعنى ذاك. لكنّ هذا لا يلغي احتمالاً ضئيلاً في أن تكون قد بسّطت الحدث، وحوّلته إلى قصّة قصيرة، من أجل إدخاله في رأسي الصغير.
على أيّة حال ترك انتحار مروى دهشة عارمة في القرية. والدهشة أوّلها أنّها لم تغادر القرية من قبلُ ولا استقلّت سيّارة. فكيف، يا ترى، وصلت إلى تلك البلدة الساحليّة التي تبعد عنّا خمسة عشر كيلومتراً؟. أمّا أوج الدهشة فكان أمر الانتحار نفسه. ذاك أنّ أهل القرية جميعاً، على ما أرجّح، كانوا مثل جدّتي يواجهون كلمة غير مسموعة من قبل، وفعلاً غير مسبوق. فكيف وأنّ الكلمة هذه تصف موتاً لم يُنزله الله، هذه المرّة، بعبده؟.
عاصفة هبّت على قريتنا بفعل ما أقدمت عليه مروى. ولأنّ الأسئلة ألحّت على إجابات تُبعد عنهم الطاعون أو ما يشبهه، فإنّها بدت كما لو أنّها تتاخم الفلسفة في استنجادها بالأصول الأولى: هل كانت مروى شجاعة أو جبانة؟ وهل هي ذات قدرات ربّانيّة غير منظورة، أم أنّها عصت أمر الربّ الذي يملك وحده صلاحيّة القرار في شأن الموت والحياة؟.
وهذان السؤالان، فضلاً عن الرهبة المشوبة بالحزن، لم يمنعا ظهور سؤال آخر كان يبرز في لحظات التعب من الأفكار المحمّلة بالجدّ: كيف غرقت مروى السمينة جدّاً؟.
لقد فتك الذعر والارتباك بأهل القرية على نحو لم يتخيّلوه من قبل، ولا تخيّلوا أنّه يصيب غيرهم. فهذا، في تقديرهم، حدث لا يحدث.
ولئن قال الكاهن الذي خاف لوهلة أن تهتزّ سلطته إنّ الله أمرها بهذا، رأى الطبيب الذي يخاصم الكاهن أنّ مروى مجنونة لا أكثر ولا أقلّ. والحقّ أنّ الاثنين لم يجدا في حوزتيهما براهين مقنعة، على رغم ميل الأهل إلى تصديق الكاهن. وكانت بين وقت وآخر تُسمع همهمات الذين يريدون لهذا الحديث أن يتوقّف، كما لو أنّهم يطردون الجنّ، فيقولون: «الله يرحمها» ويحاولون الانتقال إلى موضوع آخر.
وفي حدود تذكّري، يتراءى أنّ شيئاً من خوف الطبيعة حين تجمح وتجنّ كان يستولي عليهم، فيعملون على كبحها ومنعها من أن تغدو وساوس.
لكنْ إلى مهابة الموت والغرابة المقلقة التي طاولت الجميع، حضر سؤال يكاد أن يكون بوليسيّاً، فجعل يلحّ في الأوقات التي يتراجع فيها الاعتماد على التفسير بالله القادر على كلّ شيء: ما الذي جرى لمروى كي تُقدم على ما أقدمت عليه، ومن الذي كان وراء قرارها هذا؟. كانوا يريدون أن يعرفوا، ليس فقط لأنّهم فضوليّون، بل أيضاً لأنّ تحديد الفاعل يريحهم كما يعفيهم من بعض خوفهم وارتباكهم. مع هذا يصعب تحديد فاعل غير مروى نفسها ما دام أنّ الموت نجم عن... انتحار.
كان المطلوب، إذاً، أن يكون هناك جانٍ، أو جانية، والنساء دائماً أولى بالاتّهام. هكذا، وعلى حين غرّة، انتشرت في القرية رواية تفيد أنّ بربارة، زوجة ابن مروى الغريبة عن القرية، لم تكن تطيقها، وأنّها أذاقتها الأمرّين حتّى أنّها منعت عنها الطعام. وأمرّ من ذلك، كما قيل، أنّ نجلها نجيب صار، هو نفسه، يعامل أمّه بخشونة بادية. وبعد يوم أو يومين، حضرت شواهد لا تقبل الدحض، فظهر، مثلاً، من يشهد أنّه رأى بأمّ العين نجلها وهو يهينها، ومن يقسم بأنّ بربارة ضربتها ذات مرّة. ولم يفت البعض أن يلاحظوا أن أهل القرية التي جاءت منها بربارة لئام لا يملكون ممّا يصلح للتباهي إلاّ لؤمهم.
ويبدو أنّ جدّتي لم تحمل هذه التأويلات على محمل الجدّ. ذاك أنّ مروى وعائلتها نادراً ما يغادرون البيت، وأندر من ذلك أن يستقبلوا أحداً في بيتهما. ثمّ إنّ مروى لم تظهر عليها مرّةً آثار التجويع والحرمان من الطعام. فلا جسمها نحلَ، ولا شوهدت تأكل في أمكنة غير بيتها. غير أنّ التحفّظات المذكورة لم تخرج إلى العلن ولم تجرؤ على مقارعة الآراء الغالبة.
وعلى النحو هذا فُسّر الانتحار بأن أضيفت إلى غرابته غرابة بربارة التي ربّما سكنها الشيطان. ولئن صاحب الترحّم ذكر مروى، راحت الشتائم تحيق باسمي ابنها وزوجته اللذين لا بدّ أن يحاسبهما الربّ. ذاك أنّ أهل القرية يطلبون دائماً نهايات تكون سعيدة، إن لم يكن على الأرض هذه ففي السماء.
(2)
جرجي السليق صدر عن عائلة كان أهل القرية يتعارفون على اعتبارها أوفر عائلاتهم وجاهةً. والأمر لم يكن يقتصر على ما يعتبرونه هم. فتلك العائلات كان أفرادها يقيمون في ساحة القرية، وهذه علامة على التصدّر، كما كانت بيوتهم الأقدم والأجمل، فيما سبقوا العائلات الأخرى إلى إرسال أبنائهم إلى الجامعات في بيروت. أمّا رئيس البلديّة فكان دائماً منهم.
وجرجي انتمى إلى جبّ فقير في العائلة تلك. هكذا قرّر الوجهاء، على ما يبدو، أن يفرزوا عن جسمهم هذا الجبّ الذي يشينهم، فأعطوه تسمية أخرى تملك أحد معنيّين: إمّا الأكل المسلوق، وإمّا توكيد صلة وثيقة بـ«السِلق»، ذاك العشب البرّيّ الذي يقطفه الفقراء ويأكله الجميع بشيء من التفاوت. بهذا كانت العائلة «الأصليّة» تعلن أنّ جرجي وأقاربه ليسوا «منّا»، وأنّهم لا يأكلون إلاّ أكلاً فقيراً، أكان مسلوقاً بلا دسم أم سِلقاً.
والظاهر أنّ شيئاً ما حصل لجرجي في شبابه الواقع في أواخر الحرب العالميّة الأولى أو بُعيدها بقليل. وهذا، في الأحوال كافّة، تاريخ مجهول، إلاّ أنّ المعلوم منه هو ما نتج عنه، حيث استقرّ جرجي على هيئة سكّير دائم يحفظ أبياتاً من الشعر العربيّ القديم.
وكان أكثر ما يحفظه ويردّده الشعر الخمريّ، الجاهليّ منه وخصوصاً العبّاسيّ. أمّا بالنسبة إلى أبي نواس تحديداً، فكان جرجي يتحدّى من يتلو من أبياته شطراً لا يكمّله هو. بيد أنّ مداركه كانت أوسع من ذلك، فدرج على ترداد أبيات لوالبة بن الحباب وخلف الأحمر وغيرهما ممّن صنّفتهم الأعراف ثانويّين وهامشيّين. ولأنّ العَرق لم يفارق جرجي الذي أبقى بطحة منه تحت إبطه، بدا لكثيرين كأنّ الشعر والسُكر من معدن واحد. فما دام أنّ الشعراء «يتبعهم الغاوون»، وما داموا «في كلّ وادٍ يهيمون، يقولون ما لا يفعلون»، فلماذا لا تُدفع المعادلة هذه قليلاً بحيث يغدو السُكر هو سبب الفارق بين قولهم وفعلهم.
لكنّ جرجي كان يطرح مفارقات وتناقضات ليس من السهل حلّها. فـ«الغاوون» الذين تبعوه اقتصروا على صغار السنّ، فكانوا يستمعون إليه ويُعجبون به وفي الوقت ذاته يسخرون منه أو يعذّبونه. والالتباس هذا كان مصدره أنّ قوّة جرجي هي نفسها ضعفه. ذاك أنّ العَرق الذي جعله حافظاً غير عاديّ لشعر العرب، وأدّى إلى الإعجاب بطاقته المدهشة، كان موضع احتقار وتعالٍ لدى الأسَر التي تعتدّ بمحافظتها وحسن سلوكها. صحيحٌ أنّهم يشربون الويسكي أحياناً والبيرة أحياناً أخرى، وإذا ما استقبلوا ضيوفاً طرحوا الاثنين على طاولاتهم. إلاّ أنّ العرق، في عرفهم، بقي علامة على نزعة سوقيّة تُعلي صوت صاحبها كما تقرّبه من استخدام العنف، فكيف متى كان الشارب سليقاً يرفع صوته ويهتاج ويعنف من دون عَرق؟.
وهذا، في أغلب الظنّ، ما ضاعف خوف الغاوين من أهلهم إذا ما شاهدوهم متحلّقين حول جرجي. أبعد من هذا، راح الصغار، بين وقت وآخر، يتنصّلون منه، أو يتطهّرون، فيستحضرون شياطين الطفولة واليفاعة من داخل نفوسهم الموصوفة بالبراءة كي يخبّئوا أغراضاً يحتاجها، كالسجائر التي لا يستغني عنها، والحذاء الذي يريح قدميه منه حين يسند ظهره على الحائط. وأحياناً كانوا يوقظونه من نومه، بالصراخ حوله أو بالهزّ أو بالرفس، ثمّ يركضون إدباراً، كما كانوا يرشقونه بأحجار صغيرة كالحصى التي تهين ولا تؤلم، فيما هو لا يراهم إذ يكونون متجمّعين خلفه.
وجرجي كان يشرب إلى أن «يتعتعه السكر»، عملاً بقول رفيقه الأعلى. وحين يتعتعه، يتثاقل لسانه تصاعديّاً في الأبيات التي يتلو فيما تتراجع قدرة سامعه على فهم ما يسمع. وكانت سيجارة «تاطلي سرت» الرخيصة تنطفئ بين شفتيه وتهبط منهما نزولاً، لكنّها تثبت في موضعها حتّى انتهاء القصيدة. وهو دائماً ما أغمض إحدى عينيه كما أمسك بيده الشخص الأقرب إليه كأنّه يلقّنه أبياته على شكل توجيهات لا تقبل النقاش. وقد قال بعض «سَمّيعته» إنّ القبضة التي يمسك بها زند جليسه تشتدّ حين يكون معنى البيت إلحاديّاً أو لا أدريّاً. أمّا متّى كان المعنى تشكيكاً بجدوى الحياة، أو تهويناً من شأن الموت، فيروح يهزّ زند الجليس إلى أمام وإلى وراء كما لو أنّه يبثّ في الحكمة التي يردّدها حياة وحيويّة لا يرقى الشكّ إليهما.
ولجرجي صديق واحد يستحقّ التسمية هذه. إنّه بولس السمكري الذي يشاركه كأسيه الأوّلين لكنّه لا يتعدّاهما. فبولس مضطرّ إلى السعي وراء أشغاله التي تؤمّن له أوده، وأغلب الظنّ أنّه كان يمنح جرجي بعضاً من عوائدها القليلة. لقد كان يقصد البيوت كي يصلح الأغراض التي أصابها خلل أو دبّ فيها بعض الاهتراء، وكان يقول إنّه هو نفسه «خربان» مثل الأغراض التي يصلّحها. فبولس وحيد بلا أهل ولا زوجة، لا يذكر أحد كيف قادته طريقه من أرمينيا إلى تلك القرية. وأغرب ما في بولس أنّ أرمنيّته التي حالت دون تقويم لسانه العربيّ، لم تحل دون دقّة إنصاته للشعر الذي يردّده جرجي حتّى لو كان جاهليّاً. فهو كان يميل برأسه نحو صديقه كأنّه يتنصّت على سرّ أو يفكّ حرفاً هيروغليفيّاً، حتّى إذا تمّت تلاوة البيت أعاد رأسه إلى موضعه ثمّ راح يهزّہ يمنة ويسرة إعجاباً فيما يقلب شفتيه كي ترفدا الإعجاب بالاستعجاب. ولا أدري ما إذا كان سلوكه ينمّ عن خوف من جرجي إن لم يفعل، لكنّ تأثّره وانفعاله يدفعان إلى استبعاد المسايرة والمحاباة عن سلوكه.
وفي يوم هبطت فيه الثلوج من جبالها على قريتنا ذات العلوّ المتوسّط، أسند جرجي ظهره إلى حائط في ساحة القرية وراح بإحدى يديه يشدّ في الاتّجاهين سترته العتيقة البالية محاولاً إغلاق منافذ الهواء البارد. أمّا يده الأخرى فكانت تتشبّث بقنينة عرق عُبّئت بيتيّاً، على ما يبدو، وفاق حجمها حجم قنينتين ممّا يباع في السوق. وعلى ذمّة الرواة، كان جرجي، في تلك اللحظة، ينتظر بولس الذي وعده بأن يأتيه بسترة أخرى أو بكنزة يلبسها تحت سترته. لكنّ بولس، لسبب ما، لم يأت، بل مرّ بائع خضار يدفع عربته الخشبيّة التي لم تكن آنذاك تحمل أيّاً من الخضار. استأذنه جرجي بالجلوس على سطح العربة فأذن له ضاحكاً، بعدما طلب منه أن يوقف العربة عند تقاطع تتفرّع عنه درب ذات انحدار حاد. وبالفعل جلس جرجي القرفصاء فوق العربة وعانق قنينته الكبيرة بكلتا يديه، وبرِجله، وبقوّةٍ كان الظنّ أنّها نفدت منه، دفع العربة نحو الطريق المنحدرة. بعد ذاك لم تُسمع إلاّ قهقهة جرجي ممزوجة ببيت شعر لم يقو أحد على فهمه.