عباس بيضون


كتب سركون بولص عن مجموعته «كنت نائماً في سفينة نوح» انه كتب هذه القصائد في السنوات الاولى من حياته في اميركا، «فهي نتاج مرحلة واحدة تقريباً بدت لي فيها جميع منافذ الكتابة بالعربية لاول وهلة مسدودة في وجه التجربة الجديدة التي كانت تكتسحني آنذاك والتي توقفت عن الكتابة زمنا لأنغمر فيها بكامل جسدي ومخيلتي وامضي بها الى النهاية...» و «حاولت عندما عدت الى الكتابة ثانية ان اعبر عن ذلك في قصيدة طويلة نسبيا عنوانها حانة الكلب».

وقعت على قصيدة «حانة الكلب» قبل ان أقرأ ملاحظة سركون بولص، اذا كان سرني انها وافقت حدسي. فقد عناني اكثر انها تضع القصيدة في مفصل من تاريخ سركون الشعري، هذه الصفة التاريخية تدعم اختياري لسركون الذي لم تكن ملاحظته بريئة تماما من تقدير تاريخي.

تقترن الاهمية الشعرية لقصيدة بولص بموقعها التأسيسي. فسركون في نظري من اوائل مؤسسي قصيدة ما بعد الرواد وهذه القصيدة لا تزال جارية بتضاعيفها وتحولاتها الى الآن. قراءة سركون تجعلنا بدون تعسف نطرق بعض مغالق هذه القصيدة ونستشف بعض نوابضها. في ظني ان تجربة سركون الفريدة، والتي تأخرت عن الظهور، كانت جزءاً من عمل ضمني على القصيدة باشره يضع أفراد في مناطق مختلفة وبصيغ شتى، ليس تبيان التقاطعات بين اعمال هؤلاء هدف هذا التحليل لكننا نقع عليها او نومئ إليها حيث تعرض. ليست تاريخية النص هي ما يهم، فما يهم من هذه الناحية هو بقاؤه معتملا ومتفاعلا في سياق عملية مستمرة. إن قراءته اليوم تجعلنا اكثر تأكدا من ذلك، فهذا العمل شبه السري انكشف اكثر في المستقبل.

ليس هذا التحليل سوى قراءة شاعر لشاعر، لكن الشعر لا يشف فورا لشاعر سواء كان هذا صاحبه أم سواه. اذا كان الشاعر يحدس ويتلقى بذاته الشعرية نصا بدون واسطة، الا ان فك مغالقه أمر آخر. اخترت صفحتين من «حانة الكلب» وكان عليّ ان اتأمل كثيرا قبل ان ادخل في لاوعي النص او اطرق على أسراره. كنت واثقا من قول الشعر واسمعه بأذن ليست واضحة لي، لكن نقله إلي وعيي بل الى وعي الاخرين كان مستصعبا واحيانا شبه مستحيل. لم يكن في وسعي ان اوفر شيئا في سبيل ذلك، لذا لجأت الى كل ما يعينني وبعضه ليس من العلم في شيء، بعضه او كله لم يكن الا لنبش تحت النص او تسلل إليه. لم اكن طالب حقيقة ولست اعرف مقام الحقيقة من كل هذا ولا ازعم ان ما وجدته علم او معرفة، انه لعب مقابل لعب، ومداورة مقابل مداورة. بل هو توهم مقابل توهم. تسلك القراءة هنا مسلك الكتابة تقريبا، انها ايضا تخيل وحدس، وتوهم، وليس ما تقدر على تبيانه هو معنى النص ولكن تبيان ان ثمة سبيلا الى المعنى، وان النص له ما يقابله. لقد استشرت من اجل ذلك كل ما بدا لي، واكثر ما استشرته «لسان العرب»، فبدونه لم اكن لأصل الى شيء.

اذا كانت اللغة تتكلم في الشاعر فإن ذاكرة الكلمات ودوران معانيها يحضران. ان ثمة حقلا للمعنى هنا وموراناً للمعاني واضاءات متضاربة. كل هذا في تحتية الكلام وينسج بوعي الشاعر او لاوعيه علاقاته السرية. ليس هذا منهجا بقدر ما هو مغامرة وتوسل لأدوات كانت تنجلي في فتحات فأسلكها، وتواشجات فأذهب إليها، وأنا متأكد وغير متأكد لكن لا سبيل الى التأكد بل الى المضي. وكلما مضينا اكثر اتسع لايقيننا بحيث يستحكم بالعملية كلها، فإذا نحن في توهّم لا يزال يتوسّع حتى يتراءى لنا في النهاية اننا وصلنا الى شيء.

***

لنبدأ

لا اخفي عليكم انني أنا ايضاً

أفكر احياناً بماهية الشعر بخطورة القضية

المطلع ليس مطلعا، انه لا يبدأ بل يحيل على بداية غير معلومة، فهو بـ«ايضاً» يستأنف حديثا لا نعرف اوله، واذا كان المطلع هو ضابط ايقاع القصيدة في العادة فإننا لا نستطيع ان نوكل لمطلع «حانة الكلب» وظيفة كهذه. سنلاحظ ان الكلام في هذا المطلع يتخلص من كلام غير شعري، وانه لا يجد فوراً ايقاعه. من الواضح ان المتكلم يخاطب آخرين بالجمع وانه يتدارك شبهات ألقوها عليه. لا بد انهم رموه بأنه لا يؤمن بماهية الشعر وخطورة القضية. انها شواغلهم ومن الواضح ان المتكلم لا يأتي بعناوينها من عنده بل يكررها من خلفهم وكأنه يقلدهم في ذكرها. ليس هذا كلامه وهو لا يتبناه بكامله، لا يقول اؤمن بل يقول افكر، وافكر احيانا بماهية الشعر وخطورة القضية، وهو لا «يخفي عليهم» ان أفكاره تذهب احيانا الى هناك وكأن المتوقع منه غير هذا. في هذا قدر من اعتراف بل اعتراف بأنه هو ايضا بخلاف ما يتبادر لا يستطيع ان يخرج نفسه من شواغل اقرانه. وإذا كان الشاغل هو ماهية الشعر وخطورة القضية فإننا لا نتعب في ان نتميز الكليشيه الحاضر في هذا الكلام والوسط الذي يتداول هذا الكليشيه. اننا امام نقاش سائد بل امام عموم ثقافي وربما سياسي. عبارة، لا اخفي، يصح فيها هنا تعريفها القاموسي الذي يجمع بين الضدين، اكتم واظهر. ففي العبارة يستوي الاظهار والكتمان ويتعادلان، ليس في التفكير «احيانا وايضا» ما يفترق اظهاره كثيراً عن كتمانه، ثم ان ذلك لا يستوي مع «ماهية الشعر» وخطورة القضية.

القضية من القضاء وهو ما تم وانقطع وختم اما الخطورة فهي القوة والاهمية والنبل، هذه الالفاظ في جوهريتها وتمامها وعظمتها هي ما يفكر فيه احيانا المتكلم، يقر بذلك بداع من نزاهة او برغبة في ان لا يستغرقه الانفراد وتبقى له صلة ما بشواغل الاخرين فلا يخرج تماما من عموم كلامي او فكري. لا بد ان هذه الجوهرية والتمام والعظمة لا تستحق كثيرا من المتكلم، بل ان في ايرادها على هذا النحو قدراً من السخرية، انها ألفاظ قائمة بذاتها، معناها في نفسها وبدون حاجة الى جملة او اضافة او ظرف او تخصيص، هي تلك الألفاظ السبحانية كما تكلم عنها وضاح شرارة، انها في تفرغها ولا معناها قوة ذات سيطرة وحضور وخطر، بل لا يبعد ان تكون قوتها في فراغها وابتذالها. واضح ان المتكلم منذ العبارة الاولى «لا اخفي عليكم» يقلد اسلوباً عاما وفي هذا تهكم لا تنجو منه الذات.

وحين يردف

بنوع من التوبة كما هي حال الجميع

ينقل هذه «الجوهرية» المزعومة الى لفظية شبه دينية، لكن التوبة غير متعيّنة شأنها شأن الماهية والقضية. انها جميعا كليشيهات وجواهر، قد نفكر حيال لفظة «توبة» بولع بجلد الذات او المراجعة، لكن اللفظة موضوعة في سياق مضاد فالنوع (بنوع من التوبة) يعود الى حقل غير ديني قد يكون التجارة او العلم، وكلاهما لا قبل له بالدين. ثم ان «حال الجميع» تنزع عن التوبة فرادتها وخصوصيتها وتجعلها في العموم والابتذال. هكذا يتلاعب المتكلم بكلمة التوبة، انه تهكم بها، ينزع عنها القداسة او، في الحقيقة، يبتذل قداستها. هذه القداسة المبتذلة ترتد الى الماهية والقضية، فجميعها الآن لا تزيد عن ان تكون ديناً عمومياً، انها جميعا لنؤمن بها فحسب. لكن المتكلم يؤمن، انه يفكر احيانا بها فحسب. هو في هذا ليس تماما في الجمع المؤمن وليس خارجه تماما ايضا، لكن التهكم يشمل الجميع. فأن تكون في الداخل او في الخارج، مثله مثل ان تخفي او تظهر، كلا الامران سواء. لا نزال هكذا في التهكم في العموم والجمع، في الكليشيه والعقل الديني، لكننا ايضا في التقليد. فالمتكلم لا يتكلم لغته، واللغة التي يحاكيها هي لغة اللاتعيين والجوهرية الكاذبة والمساواة. انها لغة العموم السائدة التي يقلدها. لكن هذا «العرض» ينتهي بسرعة وليس في وسع المتكلم ان يواصل محاكاته وتهكمه.

بنوع من التوبة كما هي حال الجميع، وفقر العصافير الاسطوري

لا بد ان عطف فقر العصافير على نوع من التوبة وماهية الشعر وخطورة القضية ليس اعتباطيا لكنه ايضا ليس حقيقيا. هذا الفقر الاسطوري يشترك في عموم تشترك فيه الماهية والقضية والتوبة، يمكن ان نفكر بتلك الحاجة التي يعانيها اولئك المتشدقون بالقضية الشغفون بالتوبة والمراجعة، ان نجد بين التوبة والفقر، وكلاهما امتناع وحرمان، آصرة ما أن نرجع الى الكنايات العديدة للعصافير المغنية الضعيفة، ولماذا لا يكون الشعراء او الفنانون من بينها. يمكن ان نرجع الى كنايات الاسطوري ومن بينها القدم وربما الخلود لكننا هكذا لا نزال على السطح. فالارجح ان المتكلم هنا يسعى من وراء العطف والتحديد الظرفي الخادع احيانا الى الايهام بعلاقات. في الاسلوب السردي والتحديد الظرفي والتسلسل الظاهري ما يوهم بسياق خارجي، بل يوهم بحدث ما، بعلاقات سببية وتسلسل خادعين. يجعلنا ذلك نفكر بإطار للكلام يختلف عن جوانيته، بتظاهر اسلوبي. ليس من مطلع هنا لكننا ايضا لسنا امام وحدانية البيت واستقلاله وتمامه، بخلاف ذلك نجد ترابطا واستكمالا وتتابعا، وكل ذلك خادع. فالواضح ان الكلام يرهب ما في البيت الشعري من نهائية وتمام ويوكل الى العطف والتحديد الزمني والتجزيء والعموم تمويه هذا القالب وتشويشه. هكذا نصل الى تحيير في الشكل وفي الاسلوب، الى شعر مموّہ بالنثر اذا جاز القول، او الى شعر بتظاهر نثري. انه تظاهر يجعل الشعر ذا تغريب مزدوج، تغريب النثر وتغريب الشعر. فالواضح ان دخول النثر على الشعر ينقله الى شعرية اخرى والتحيير سيكون محل ديناميات جديد.

بنوع من التوبة كما هي حال الجميع وفقر العصافير الاسطوري

اذا كانت التوبة هي الامتناع وفي الفقر ما يشبه ذلك، فإن ما يجمعهما ايضا هو السلب. لا يزال التهكم والعموم ظاهرين لكن ابتذال التوبة تغطية لانسحاب ما وتخصيص ما. الارجح ان التوبة رغم الإطار الخارجي الذي وضعت فيه لم تتجرد تماما من محمولها الخاص والداخلي. الكلام هنا ذو ازدواج فعلي وسينسحب اكثر على العبارة المتصلة به «وفقر العصافير الاسطوري». اذا لاحظنا كما يلاحظ «لسان العرب» الصلة بين الفقر وفقار الظهر ورأينا، للعجب، ان احد معاني العصفور هو ما على السناسن من العصب أي ما على حروف فقار الظهر، فضلا عما للعصفور والطائر من كنايات داخلية، طائر الصدر على سبيل المثال. اذا جمعنا ذلك الى بعضه بعضا بدا لنا ان ما تحت الكلام وفي سره نقلة الى داخل فقري. لم يكن اشتراك الشاعر المحسوب والجزئي في العموم، ليصمد طويلا تحت التهكم. والارجح ان هذه البداية الساخرة جعلت العبور الى الداخل غير ملحوظ. لقد حدث بدون أي درامية او مقدمة وجدانية، حدث مموها بالسخرية والعموم ولم تحظ «أنا» المتكلم بأي تقدير خاص او احتفال بالذات. لكن كلام الداخل ايضا ليس بالسوية التي نحسب فأسطر (اذا تحرينا الاسطوري قاموسيا، تعني تجاوز الكلام في السطر الذي هو فيه، أي الانحراف عنه وتضييعه واسطر من سَطَر أي قطع بالسيف والساطور وسطّر أي خط والاساطير الاباطيل والاحاديث المزخرفة فضلا عن ان لأسطر صلة بسيطر أي تسلط). ليس للداخل الفقري اذن من كلام سوى الانحراف والحديث الباطل فضلا عن القطع والقتل فالسيطرة. اذا كان من شأن كلام العموم ما رأينا فإن للخصوص وللداخل كلاما مقابلا مهولا في انحرافه بشتى المعاني. ليس للداخل سوية في الكلام وليس للخارج حقيقة في الكلام لكن هذا التنازع لا يعتم ان يقال بلغة الحلم

وأنا نائم احلم انني اتعثر برجل نائم تحت جبل

وأركله لأوقظه برفق اولا ثم بتهور وصراع حتى يستيقظ،

ويوقظني

سنلاحظ ان السطر الشعري ولا اقول البيت يتوقف في وسط معناه، لا يزال البيت ظاهراً موجوداً لكن التقطيع لا يطابق جريان المعنى، انه من هذه الناحية خادع، أي اننا امام سرعتين للنص، سرعة تتعلق بالايقاع واخرى تتعلق بالمعنى، بمعنى ان الايقاع لم يعد قادراً على ضبط المعنى وترتيبه. لقد خرجنا من هذا الايهام الذي كان من شأنه الايحاء بسلطة واحدة وقول نهائي. الشعر الآن بريء من وحدانية تجعله ايضا واحداً ونهائياً. الايقاع والمعنى، الشعر والنثر، كما رأينا يتفاعلان وربما يتنازعان في داخله. اذا عدنا الى حلم المتكلم فمن معاني النوم السكون ومن معاني الحلم الأناة والنضج، أي اننا في ذلك الداخل الفقري. لكن اعثر تعني كبا وفي معنى السقوط على الأرض، والعاثور حفرة كما ان من معانيها اللعُمة (تعثر لسانه) ومن معانيها الاطلاع على سر الآخر (اعثرته عليه أي اطلعته عليه) واستطراداً فإن معاني العثر الكذب. ثمة في «تعثر» حد مادي جسدي «الكبوة والسقوط» وحدّ كلامي أي اللعثمة والكشف والكذب. يكاد القاموس العربي لا يتناول الكلام او يستشرفه الا ويجد فيه هذه الصفات مجتمعة كما رأينا في «الاسطوري». فكأن تناقضه ماثل دائما، لا يتعدى تعثر، فمن يتعثر يكبو وتعديته في النص تدل في ابسط تقدير الى اشتراك في الكبوة بين النائمين. كلاهما إذن يتعثر بنفسه وبغيره، انهما يشتركان في الحد الجسدي (الكبوة) للتعثر والحد الكلامي الذي يستدعي فورا ما في اسطر والاسطوري من المعاني، بل ان في وسعنا القول ان الكبوة أي السقوط هي كذلك في الجسد والكلام معا. يشترك النائمان في خصوصية النوم وفي التعثر وفي انتظار اليقظة أي في كل عناصر الحلم. في وسعنا التفكير اذن بأنهما يتمريان في بعضهما البعض وانهما تقريبا الشخص نفسه. قد يكونان، اذا رجعنا الى العموم والخصوص، الشخص نفسه في حالين، لكن اجتماعهما في واحد لا يردنا الى تلك الأنا المعتدة بإرادتها وقدرتها السلبية او الايجابية او انفرادها كما وجدناها في شعر الرواد. هنا تبدو الذات منقسمة وفي تنازع وصراع هما صفة كلامها نفسه. انه صراع داخل الكبوة والسقوط، صراع داخل الخصوصية والفقرية، فهنا يزدوج الخصوص والعموم وهنا يتجاذب الكلام اللعثمة والكذب كما الكشف والاطلاع وكما القتل والسيطرة اذا تذكرنا معاني اسطر، ويتنازع الذات ما يتنازع كلامها فكلاهما في الخصوص والعموم وكلاهما في الداخل والخارج.

يتعثر النائمان بأنفسهما وببعضهما بعضا تحت جبل. يجهر المتكلم بأنه حلم وعليه فهو يدعونا صراحة الى التأويل. من شأن الكلام هنا ان لا يدعي المطابقة، ومن شأنه ان يفرز الخصوص من العموم والصورة من الحقيقة. انه شعر فحسب وهو لا يخفي حيلته ولا ينصب نفسه ميزانا للحق. التحديد المكاني في «تحت جبل» ليس نافلا، فالجبل في «لسان العرب» اسم لكل وتد عظم وطال، واجبل القوم حفروا فبلغوا المكان الصلب، واجبل الحافر اذا امضى الى المكان الذي لا يحيك فيه المعول، واجبل الشاعر صعب عليه القول، واجبل المتكلم انقطع عن الكلام. هنا ايضا يتوازى الانقطاع والامتناع والصلابة مع صعوبة القول وانقطاعه، حد الكلام هو ايضا حد المكان كأنهما الشيء نفسه. ذلك ما بدا في التعثر ايضا من كبوة الجسد والكلام معا. وما بدا في اسطر من معاني الكلام المتفارقة، كل ذلك يؤدي الى ان ما يجري على الجسد والمكان يجري على الكلام ايضا. لسنا في ثنائية الكلام/ الجسد، فالواضح ان الجبل والتعثر يدمجانهما بلا أي فارق، الاندماج لا فكاك منه فهو كابوسي كما نلاحظ في حلم المتكلم الكابوسي. ما من فكاك فالسقوط والانقطاع يجمعانهما في واحد متصارع. بل ان معهما في الحفرة ايضا الزمن والعالم، فالصراع يقع داخل هذه الوحدة العضوية الكابوسية والجبل لا مكان بعده وعلى الصراع ان ينحبس بكل عناصره في هذه الحفرة، على المرء ان يرتطم بنفسه وكلامه هنا لا يقيمه شيء وليس امامه شيء، هكذا نفهم من الركل برفق (واركله لأوقظه برفق). فالمرء يركل الفرس لتعدو وعليه فإن الركل برفق غير مستغرب. انها ضربة بقدم واحدة لتطلق «النائم»، واذا علمنا ان الصوت ينام ايضا بدا لنا ان للعدو ما يقابله. الحالم او المروبص يركل برفق والرفق ضد العنف، لكن الرفيق يأتي ايضا من الرفق وكذلك الرفقة وعليه فإن في الرفق معنى المصاحبة. هنا ايضا يشترك النائمان في الصحبة، لكن الركل يفيد العنف ويفيد الضرب واستدعاء ما يفيد العنف ونزع العنف عنه بالرفق ليس مجانيا. هنا نتذكر ان التعثر لم يكن عنفا فحسب ولكن سقوطا، ولم يكن على الآخر بقدر ما هو على الذات. قد لا يكون الركل شيئا آخر، قد يكون جسا وشدا على النفس، قد يكون انذاراً وحفزاً، فعل المرء بالمريض او فعل المرء بنفسه. انه اشفاق غير صاخب ولا هستيري، بل قد لا يكون سوى مخاض داخلي صعب وطويل ومتأن في الوقت نفسه. لكن الرفق لا ينفع وينقلب الى تهور وصراخ، التهور يفيد السقوط والتدهور والتهديم، أي اننا لا نزال في معنى السقوط. التهور كالتعثر يقع على الذات اكثر من وقوعه على الآخر، فهو الآخر لا يقبل التعدية الا بصعوبة. اننا ثانية امام معنى السقوط والتدهور وهذان اقرب الى ان يكونا على الذات او ضد الذات، فإذا علمنا ان الصراخ هو للاستغاثة او للصيحة عند الفزع فهمنا اكثر ان الذات هي نطاق الارتطام والسقوط والتدهور والفزع وان التهور هو المقابل للتعثر، للارتطام الداخلي الذي هو ايضا مخاض للكلام ومقاساة له. الركل برفق فالتهور فالصراخ درجات من صراع سيكون مزيجا من الحفز للخروج ومن السقوط والتهدم فالفزع والاستغاثة. انه صراع يسقط في نفسه، صراع في سبيل الخروج و«اليقظة» ينتهي بالتدمير والاستغاثة اليانعة. انه صراع داخل نوم مركّب، نوم اثنين منعكسين، في سبيل اليقظة واليقظة فضلا عن الصحو من النوم قد تعني الاستثارة فيقال للذي يثير التراب قد ايقظه وقد تعني الصوت فيقال استيقظ الخلخال أي صوّت. لسنا بعيدين عن النهوض والكلام (التصويت)، بل لسنا بعيدين عما يتواتر من معاني اليقظة، الصحوة والوعي والانكشاف والاطلاع والخروج والانبثاق او الكلام. بدأ المتكلم في النص باعتراف (لا اخفي عليكم) باشتراكه في عموم كلامي، فالقضية والماهية ليس لهما هنا سوى قوة كلامية. لم يقل الكلام هنا بلفظه لكن اشارت الألفاظ اليه سواء بالتسطير او بالكذب او بالانقطاع او بالكشف والاطلاع، لم يقل الكلام بلفظه لأننا مثول له ولأنه كما قال هيديغر عن التفكير لم ينبثق ولم يبدأ بعد، انه مخاض وصراع ومقاساة وهذا مسار يحيق به السقوط والتهديم، ثم انها رحلة يقابل فيها العنف الجسدي والخارجي العنف النفسي. ارتطام وسقوط جسديان، انقطاع مكان وانغلاقه، فالصراع هكذا فقري عضوي. انه متجسد في ارتطامه وانهدامه وتعثره لكنه ايضا رحلة من داخل الى داخل، ومن نوم الى نوم، ويبقى مع ذلك موسوما بعنف شبه خارجي. كل ذلك يوحي بأن المخاض جسدي نفسي، وان الكلام يعتمل في هذا الازدواج النفسي الجسدي، النفسي يشاكل الجسدي وغير المتعدي يشاكل المتعدي كأن الفعل والصراع يقعان في المحل نفسه وعلى المحل نفسه او كأنهما يقعان اولا في نفسيهما، لسنا في ثنائيات الداخل والخارج او الجسدي والنفسي بل نحن على تقاطعاتهما وعلى التباسهما بالأحرى. انها لغة ليست هنا ولا هناك ولكن على الحد بين الاثنين، ليست هذا ولا ذاك ولكنها من تعديتهما واشتراكهما.

واحيانا يكون الفرق الوحيد بين الحياة والنوم

رحلة النوم داخل النوم والحلم داخل الحلم والعنف داخل الجسد لا تؤدي الى اليقظة لكنها تصل الى الفرق، الفرق الوحيد بين الحياة والنوم. لا نخرج لكن الصراع يضعنا على الحد. لم نخرج الى اليقظة لكننا وجدنا الحياة مقابلنا، الفرق فاصل بين اثنين. ذلك يقتضي وجودهما كما يعني انه سيكون جسرا بينهما. ليس بين الاثنين تناقض ولا تضاد انه فقط الفرق. التباين لا التضارب، والتباين الذي يفصل ويصل. يمكن القول ان فكرة التضاد وسمت الحداثة الشعرية في بدوها وان التباين هو رؤيا الطور الثاني للتجديد الشعري. ان النص يخرج الآن من ازدواج بل من التباس الجسدي بالنفسي والداخلي بالخارجي ومن تعديتهما ايضا، هكذا نجد الحياة مقابلنا انها كانت دائما هناك. لقد كان الصراع الكابوسي قائما على وقوع المرء في ذاته وها هو بدون ان يستيقظ يجد نفسه على الحد ويجد العالم مقابله. لقد انقضى الحلم وبقي النوم، المكان الذي تخرج منه الكوابيس والأحلام. لم يجد المتكلم اليقظة أمامه ولم يكن في الموت ليخرج الى الحياة، أي اننا لم نخرج من نقيض الى نقيض. لكننا بين حالين. لم يبق الا النوم وغاب الحالم، وغدا الكلام بصيغة الغائب بعد ان كان بصيغة المتكلم والغائب يصوغ المعادلة بلغة شبه قانونية. بعد العماء والاختلاط الكابوسي والانسداد والانقطاع والوقوع في النفس نصل الى التمييز والفرز، أي نخلّص الاشياء من بعضها البعض ونباين ما بينها. اننا بألفاظ كـ«احيانا» و«الفرق» و«الوحيد» امام مستوى آخر من الكلام يصطنع الفقهي والقانوني وربما الموضوعي بدون ان يؤذي الشعر، بل يبدو ان في تغريب الفقهي والقانوني شعرية اضافية. اقول يصطنع لأن هذا المظهر القانوني خادع، ليس في الأمر قانون لكن ايعاز بقانون وليس فيه وضوح انما قالب للوضوح. زد ان الخروج من التخييل الكابوسي بسط مستوى آخر للكلام. لنقل ان الحلم ينقضي ويأتي تفسير الحلم، العماء يتوارى وها نحن أمام الفرق، أمام القاعدة والحد وربما القانون.

بعد الحلم تفسير الحلم او قل الايهام بتفسير، يخرج المتكلم من الاختلاط والجوانية المغلقة الى الخارج، الى الحياة والعالم. يقع على الفرق حيث لا شيء. يجد نفسه في الما بين، لا هنا ولا هناك. انه وضوح او قالب للوضوح لكنه وضوح مؤلم ووعي شقي. اذا ابتعدنا عن قالب الحكمة والصياغة القانونية، فان الفرق هنا وحيد كالنصل، انه وحيد لأنه حد مسنون وجارح او مجروح ولأن ما بين النوم والحياة ذات العلاقة الزجاجية بين القصد والمصادفة. القصد في «لسان العرب» يعني الاستقامة والعدل والقرب والاعتدال، لكن ثمة ما يعيده الى المسكون الاكبر عنه الكلام. فالقصد يردنا الى القصيد وهو الشعر التام، ثم ان القصد هو مباشرة الشيء أي التوجه اليه واتيانه مباشرة، هذه المعاني تجمع السوية والتمام والمباشرة. فيما ان المصادفة من الصدوف الذي يعني الالتواء والميل والاعراض (الصدوف عوج في اليدين وميل في القدم). ثمة طباق هنا وليس بين معنى القصد الإرادي والمصادفة العشوائية فحسب، ولكن بين السوية والالتواء، بين التمام والعوج أي العيب، واذا تذكرنا القصيد وجدنا الطباق بين الكلام التام المنظوم والعشوائي. انه طباق بين طرفيه علاقة زجاجية عطوب كسور، وهي للسبب نفسه جارحة متداخلة، لن تكون علاقة اذا لم تكن كذلك. ليس بين الاختلاط والعشوائية والتمام والسوية والارادة سوى العلاقة، ليس الفرق اذن صريحا ولا حاسما ولا سعيدا، انه وحيد مسنن. هكذا ينكسر الوضوح ويشقى الوعي، لكن الفرق ايضا فظ، قمعي، هو فرق بين ان تستيقظ بنفسك او ان توقظ بحذاء. اخيرا ينضغط الفرق ويختصر في هذه المفارقة التي لا نعدم ان نفهم كنهها السياسي. لقد تدرج الفرق نزولا حتى وصل الى هذه المعادلة. نحن الآن نفهم ان الفرق هو ايضا اختزال وتخلص حتى الوصول الى المجابهة العارية «ان تستيقظ او توقظ بحذاء». سنتذكر الآن ان اليقظة كانت مدار الحلم الآنف وان الارتطام والركل والتهور والصراخ كانت في سبيلها. لقد استعاد النص اللغز الذي طرحه واليك جوابه: اليقظة هذا وعليه فإن الحلم وجد تفسيره. تفسير وليس تفسيرا، فالمتكلم يبسّط اكثر مما يوضح، الكناية السياسية هي خلاصة اكثر منها تفسيرا. الفروق الثلاثة (النوم والحياة، القصد والمصادفة واليقظة بالحذاء) لا تفسر بعضها بعضا ولا تتساوى. لكننا عند كل فرق نضيّقه حتى نصل الى مجابهة عينية، فاذا وصل المتكلم الى التحديد الأخير قال ان المسألة هنا (حتى اذا لم يكن هناك جبل، حتى اذا لم يكن هناك) ونستطيع ان نتمم العبارة الثانية بالقول حتى اذا لم يكن هناك حلم. المتكلم لم يعد يحتاج الى حلم، عينية اليقظة بحذاء وفظاظتها باديان بدون وساطة. لا تفسر اليقظة بالحذاء الحلم لكنها تعلقه وتقصيه. لقد بدأ المتكلم بـ»لا اخفي» ومراده انه لا يخفي اشتراكه في ثرثرة عامة، ثم تكلم عن حلم كابوسي والآن ينحّي الاثنين قائلا ان الحقيقة العارية هناك. ان ليس بعد القمع والعسف شيء. انها كناية سياسية لا تفسر لكنها تتجاوز كأن المتكلم يقول ان علينا ان نضحي بالمسألة، ان الفرق يقع الآن هنا وعلينا ان نقف عنده. فظاظة الايقاظ بحذاء تفرض نفسها، وتفرض علينا ان نحصر الفرق، بل نحصر التفكير فيها. هكذا تتم التضحية فتغدو الفظاظة معنانا الوحيد، اننا نحدد انفسنا ونحدد فكرنا ليستغرقنا ذلك الخيار الحديدي الذي لا شيء خارجه، ولا نحتاج فيه الى جبل او حلم ولكن فقط الى مجابهة عارية. هكذا نجد هذا النص الغامض مبنيا على شكل قضية محكمة من العموم الى الخصوص ومن الداخل الى الخارج ومن الحلم الى التفسير، انه بناء برهاني ومنطقي لكنه خادع من هذه الناحية، ما يبدو متسلسلاً ليس كذلك وما يبدو متصلا ليس كذلك، الكلام مسلسل وغير متسلسل، متصل ومنفصل، ما يبدو متقابلا (الحلم والتفسير) او متولدا من بعضه البعض (الفرق) ليس كذلك الا في اللعبة الشعرية التي تتلبّس هذا البناء وذلك الاسلوب. هكذا نجد انفسنا مجددا امام تحيير للشكل وتحيير للنوع الشعري نفسه. ثمة هنا تجاذب بين المادة الشعرية اذا جاز القول وتأطيرها المضاد نسبيا. ولا شك ان تراوح النص بين هذين الطرفين يشحنه بدينامية اضافية.

هناك الاستحالات الكلامية من فقر ورفق وفرق. وهي جميعها جناسات غير تامة، انها تقوم مقام النص في تمييز العلاقات، من فقرية كما يفيد الفقر الى قريبة كما يفيد الرفق الى فصل واتصال كما يفيد الفرق.

البياض ليس اعتباطيا هنا، الحدث الشعري لا يزال يعتمل فيه، فهو الذي لم يعد يحتاج الى جبل ولا الى ما هناك بات ممكنا بدون ذلك كله، بات ممكنا في الصمت. لقد غدا عاريا ومجردا وبوسعه ان يستمر هكذا. انه ايضا «فرق» بين كلامين يتواصلان عن طريقه في الصمت، لقد وصل الكلام الى ان يتجاوز نفسه. وقف اخرس امام الفعل وامام الفظاظة التي تفضحه ايضا وتهدده. هكذا نقع على الفرق الوحيد المعادل للبياض وللصمت.

ذات فجر يقع المحذور برمته ودون مصالحه

اذا كان الجبل هو ما احتاج النص لنفيه تورية عن الحلم كله فان العودة الى الكلام تبدأ بتحديد زماني هو الفجر. للحدث الشعري هنا زمان ومكان. انه تشبه بالسرد او ايهام سردي، فالسرد جزء من الايهام الشعري وان كان الزمان والمكان يلعبان في هذا الايهام لعبة مضادة. انهما يبدآن في الخارج نسبيا وعلى قدر من المحايدة الظاهرية، وكأنهما استمهال للفعل الشعري. هذا ما يسهل احالة جزء من السر الشعري ليختفي بأمان في هذه المنطقة شبه المحايدة وشبه البرانية. رأينا ما هو الجبل ولا يخطر لنا بسهولة ان الفجر شيء غير الضوء الاول للصباح، لكن الفجر، قاموسيا، يردنا الى الانفجار، وافجر هي ايضا كفر وكذب وعصي، وفجر انبعث في المعاصي وفجر فسق وفجر زنا والفجور هو ايضا الريبة والميل عن الصدق، ففجر اخطأ في الجواب، اما المحير فهو ان الفجر هو الشق والانصداع وعليه فان «الفرق» ليس عنا ببعيد. اننا في الانفجار والعصيان والفجور، لكننا ايضا في الفرق، في هذا الاختيار بين ان نكون او لا نكون. هنا يقع المحذور والوقوع لا يبعد عن الانفجار، فاذا كان الحصول فالوقيعة والوقعة هما الداهية وهما الحرب. (وقائع العرب حروبهم). لسنا بعيدين ايضا عن معاني الريبة فالتوقع والتوقيع هما التنظر للأمر وتظنيه ولسنا بعيدين عن العصيان فالوقوع هو السقوط بمعانيه وكناياته كلها والوقيعة هي العيب. اما المحذورة فهي قاموسيا الفزع بعينه وقيل هي الحرب.

لنقل اذن اننا امام معان دائرة اولا على العصيان والخروج والانفجار، ودائرة ثانية على الريبة والخطأ في الجواب والتوهم والتظني. هل نستطيع ان نضع «الفعل» في الدائرة الاولى ونضع الكلام والخيال والظن في الدائرة الثانية، لنجد ان معاني الفعل اكثر حسما ودويا من معاني الفكر المترددة الخافتة. ما يجري في الفعل ليس تماما ما يجري في الفكر فبينهما تفاوت واضح. بل لعل معاني الفعل الصارخة لا تجد الا كسوفا في الجهة الثانية. لكن المحذور يقع برمته، لم يرد في النص بكامله او تمامه او كليته، وجميعها تفيد التمام، بل ذهب الى رمته الاقل تواتراً ولم يكن ذلك بلا سبب. اذ يتوارد الى الذهن ان الرمة هي العظام البالية او الخلق البالي من كل شيء. كما ان ترمرم تتضمن معنى السكوت «ترمرم القوم تحركوا للسكون»، «لم يترمرم» لم يرد جوابا فضلاً عن ان المرمات هي الدواهي وهي الحرب. لم ترد «برمته» في النص الا وهي تحمل النتيجة البائسة لهذا الانفجار الذي لن يندلع حتى يخمد او يتحرك للسكون.

يقع المحذور دون مصالحه وفي المصالحة معنى الاصلاح والصلح أي السلم نستشف في ذلك من بعيد تقديرا سلبيا للانفجار. واذا تذكرنا ان الواقعة حرب والمحذورة حرب والمرمات دواهٍ وهذا لا يبعد عن لغة الحرب. اذ تذكرنا ذلك تعجبنا من استبطان النص للحرب، وخطر لنا من بعيد الحروب العراقية الداخلية والخارجية، بل خطر لنا التخييل العربي للوجود الامبريالي الاميركي. نذهب بدون تأكد الى ان ما يبدو ثورة قد يكون ايضا حربا، فالعنف الذي يقابل الريبة والتظني لا يلبث ان يقابل الصمت كما قال صديقي الذي كتب اطروحة عن صمت ابي الهول.

اذا اعتبرنا ان وقوع المحذور ذات فجر قد يكون انفجارا مكبوتا لم يتهيأ له ان ينطلق في حلم النائم الذي يسعى ليوقظ نائما. انه انفجار كابوسي لعنف وعصيان، انفجار المكبوت والمحبوس انفجار الحرب. كل ذلك يكاد يقع في الريبة والتظني او يقع خامدا، كأنه يعتمل اكثر مما يتحقق. ذلك ما يلحظه الصديق المتخصص في الصمت. المحذور يقع برمته أي يقع رمة، وما يقع عنف انفجاري لا يصل الى مصالحة أي صلاح. الصمت تخصص الصديق ولا يحضر فورا الا ليشير الى ان ما وقع انما حصل ايضا في الكلام وان ما كان ليس الا دويا فحسب، قرقعة او كلاما زائفا. يقابل الصمت الحد الذي فرق اليه النائم، اذا كان ذاك هو اليقظة الصارمة فهذا ايضا صحوة صارمة وقاسية من الانفجار الباطني. ثمة حكم سلبي على ما جرى من الصديق الخبير في احوال الكلام والصمت. لم يعتم ان حضر الصمت جوابا كما حضر الفرق وحضر البياض. صمت ابي الهول كناية تاريخية يخفف تواترها من وقعها. بل يخفف من حدة النص الذي يغدو هنا تعليقا ولا يسلم في السطر التالي.

لنيل شاهدة الدكتوراه باليانصيب

من نكته متكلفة «الدكتوراه باليانصيب» ولعب على الالفاظ لا يقل تكلفا. شاهدة الدكتوراه بدل شهادة، اما الدكتوراه باليانصيب الذي هو لعبة حظ فتدل الى ان علم صاحبها علم خائب، واطروحة صمت ابي الهول ليست اطروحة فهي في الغالب صمت صاحبها نفسه، ما دامت شهادته هي شاهدته وقدره فهي حظه ولعبه مع الحظ وليس علمه بالصمت، اذاك سوى حياته. من معاني الصمت العطش، اصمت أي اعتقل لسانه وترك في صحراء، ولا تبتعد الصحراء عن معانيه الأخرى ومنها التيه، اصمت لا يدري اين هو. لذا نجد الانتقال سلسا من تداعي الصمت الى تداعيات العطش والصحراء. انها قنوات تتشابك وتتصل تحت المعاني.

ذات فجر يقع فيه المحذور ينتقل فيه نبع القرية

من وراء السياج الى فم رجل نائم يرصّعه الظمأ

يحلم ان فرقة مدربة من الأعداء

تهيل الصحراء بالرفش وطوال الليل

في قصبته الهوائية، ودون كلل، ذات فجر

ليس النبع بعيدا عن التفجر والفجر فهو تفجر الماء وليست القرية بعيدة عن الماء فأكثر معانيها الحوض والقدح، لكن فيها ايضا معنى العطاء الموجود ايضا في «فجر». نحن، اذاً في استعارة مائية للانفجار والخروج والعصيان وربما الحرب، وهي المعاني المتضمنة في الفجر ووقوع المحذور. ليس اعتباطا ان المقطع يبدأ من حيث بدا المقطع السابق «ذات فجر يقع المحذور». الحكاية تعاود البدء، انها متواصلة، من ثنائية النوم واليقظة الى ثنائية الانفجار والصمت. نحن الآن امام ثنائية الماء والعطش، انه الصراع، الثنائيات الثلاث محطات في الصراع نفسه، وجميعها تتقاسم معاني الكلام والخروج والحد المحذور.

ينتقل نبع القرية من وراء السياج. للسياج هنا معناه المتواتر، انه ايضا الحد، الفرق، الصمت، لكنه الآن لا يختم الصراع، لا يجرفه النبع بل يتسلل من ورائه الى فم النائم. ليس لنا بعد كناية ابي الهول الا ان نفكر في الكلام حين نقرأ عن الفم. يتواتر في النص اسلوبا السرد والحلم وكلاهما يتجه الى نزع او حصر الايهام الشعري. يعيد السردي الكلام الى نوع من الاشتراك والعموم (لا اخفي عليكم، افكر احيانا، ذات فجر يقع المحذور) فيما يقدم الحلم الحدث الشعري على انه تورية تحتاج الى تأويل. الشعر ليس نهاية هنا، ان له مقابلا نجده بالتأويل ومفتاحا في المشترك والعام. نحن من جديد امام النائم اياه الذي يرصّع فمه الظمأ. الحق ان الترصيع هنا كلمة نافرة ولا اقول نابية وهي تستوقفنا لنفورها. الترصيع هو التركيب (رصع العقد بالجوهر) وهو ايضا شدة الطعن والدق (رصع الحب دقه) كما الضرب باليد، وتذهب معانيه غير المجهولة الى الجماع فالسفاد. ما يتجاذب رصع من المعاني يقع بكليته على الظمأ، فالظمأ بعد رصع ليس العطش وحده والعطش ببساطة، انه يركب الفم. واذا تذكرنا ان في الترصيع ما يلفت الى التاج وما يلفت الى التزيين، وجدنا ان الظمأ يركب الفم ويسطو عليه من خارجه. انه الفرض لكنه فرض قاس منحرف، يعتمل فيه ما يعتمل في معاني الترصيع من عنف وعدوان. ان معاني الدق والضرب والطعن والسفاد تجعل من الظمأ حالة مركّبة متنازعة من الداخل. ثمة هنا معها ما يعادل الارتطام بالذات والسقوط فيها في حلم النائمين. لا نشك ان حلم الرجل الكابوس متصل بذلك. الظمأ بما يعتمل فيه من كبت هو الذي يتكلم في حلم النائم الذي يرى في منامه فرقة مدربة من الاعداء. الفرقة تعيدنا الى الفرق، بما هو قانون واحد. الفرقة المدربة من الاعداء بصورتها السينمائية تهيل الصحراء بالرفش طوال الليل. اذا عدنا الى تعريف الصمت وجدنا فيه، للعجب، ما يوازي الصحراء. الصمت هو الذي لا جوف له، تراب مصمّت لونه واحد، وباب مصمت مبهم، وحلي مصمت لا يتحرك على لابسه. في هذه التعابير الرائعة، لا جوف له ولونه واحد ولا يتحرك على لابسه، نجد الصحراء، الاستواء والتسطيح والتماثل والسكون. فالصحراء هي الارض المستوية، الصحراء والصمت صفتهما السكون والتساوي والتماثل وهذه عكس صفة النبع والفجر المتفجرين. واذا كان في الفجر والنبع ما يشير الى الانقلاب والخروج والتمرد فإن الصحراء ليست بخلاف ذلك سوى النظام والقانون والامتثال، اما الحالم الذي في ظمأه يحلم بانهيال الصحراء في قصبته الهوائية فانه في ظمأ داخل ظمأ. انه شأن الحالم الاول الذي كان في نوم داخل نوم، يتصارع النائم داخل ظمأه المزدوج. النبع يتسلل من وراء السياج ولا يزيحه، يلتف على الصحراء المنهالة في قصبة الرجل ولا يهزمها، عندما ينهي النص القصة بالعودة الى حيث بدأ. «ذات فجر» لا نكون خرجنا الى حل. الحلم المزدوج في المنامين هو كابوس سقوط في الخارج وفي الداخل، في العالم وفي النفس، كابوس صراع داخل صراع. ينتهي المقطع من حيث بدأ (ذات فجر) لقد انتهت جولة اخرى لكن الصراع يحتد ويزداد ضراوة. انها مغامرة متعددة الحلقات ولو كان مدارها داخل الجسد الانساني. انها كوابيس لكن تحصل بإنارة تامة وصياغة ملحمية ولا نملك الا الاعجاب بهذه القدرة على ادارة المسرح الكابوسي. ما يحصل هو نوع من صراع جلقامشي داخل القناة الهوائية وتحت الاجفان، لكن عناصر كالظمأ تتلبس هنا حضورا ميتولوجيا. ان البيولوجي الجسدي يغدو مدار تخييل بانورامي ولا نملك الا ان نرى كفاح العناصر وجبروتها اذ لا يمكن ان ننسى هذه الصحراء المنهالة في القصبة الهوائية. اننا نشعر بالاختناق لكن معه بفضاء ومسرح حرّين. فيما نرى الصحراء تنهال والنبع يلتف من ورائها ما يشبه لعبة تكوين، ما يشبه ابتداء للخليقة، أي تأويل لا يمكن ان يصح اذا لم يأخذ في الاعتبار هذا التخييل البيولوجي، اذا لم ير في الصحراء طوفانا او قدرا والنبع يلتف من ورائها كزورق نجاة.

عندما يقع المحذور ويُحظر التجول ويُفشى السر

هذه المرة نحن ما بعد وقوع المحذور وما يجري مشروط بهذا الوقوع (عندما يقع المحذور). اذا تذكرنا ماذا افدناه من (ذات فجر يقع المحذور) بدا لنا اننا لا نزال في المعنى وفي ضده، فالمحذور لا يجانس المحظور فقط بل يعنيه تقريبا (عندما يقع المحذور ويُحظر التجول). اللفظ هو نفسه والمعنى ايضا مع تفاوت، فاذا كان المحذور يخيف فذلك هو شأن المحظور لكن مع المنع والتحريم، وقوع المحذور يعني حصوله، لكنه حصول موسوم بالوقوع أي السقوط، بينما حظر التجول تدبير يحصل في الطوارئ حين تخرج الأمور الجادة والنظام أي حين يقع المحذور. هذا يلفت الى ما بين المحذور والمحظور من ازدواج المعنى، الحظر ولجمه في آن معا، فحين يقع المحذور يتحول الى محظور. إنه يقع «ولا يتجول». يتفجر الفجر لكنه تفجر مسدود. إنه تفجر يقع ويسقط في دائرته، مع بقائه فجوراً وانفجاراً. إن له وجه الحظر ووجه الانتهاك في آن معا. هكذا ندخل في نوع من التعابير المزدوجة، يُفشى السر أي ينتشر، فإذا علمنا ان السر هو ما يلزم إخفاؤه لسوء ما ينطوي عليه وأن أحد معانيه الزنا بدا لنا أنه المحذور المحظور عينه، ثم إن السر هو الوسط أي المركز والأساس والمتصدر والأفضل وهو السرور وهو غير بعيد من السرير الذي يؤشر الى الملك واللذة. أي أن السر يحمل الوجهين معا فهو النظام والمركز والأساس وهو المتعة والخروج. تناقض يجعله مجددا المحذور المحظور. تفشي السر يحمل أيضا ذات الطبيعة المتناقضة، فهو ينتشر في دائرته وينتشر كالوباء أو الجريمة، أي أن السر وتفشيه معا في دائرة الحظر ودائرة الخروج. نحن هكذا «وسط» تنازع داخلي، وسط ما يعتمل في الصراع مع الداخل والخارج معا، وإذا أخذنا بالشَكْل الذي في طبعة «دار الجمل» لكتاب سركون بولص «إذا كنت نائما في مركب نوح» ويرجح أنه من وضع الشاعر، فإن الإفشاء يتم على شكل غيمة واطئة.

...... ويفشى السر

تحت شبكة الأحكام العرفية غيمةً واطئةً

لا شك ان الأحكام العرفية بمعناها المباشر تدبير من السلطة. هكذا نجد كما رأينا من قبل خلاصة سياسية للحظر، لكن هذه الخلاصة لا تستوعب الحظر وإنما تخرجه الى جهة القمع السياسي فحسب. إنه حظر من الخارج هذه المرة لكن الشبكة من الاشتباك واشتبكت الأمور التبست أو اختلطت والشبكة أيضا القرابة أو الرحم. ذلك يعني أننا لسنا كليا في الخارج. فإن الاختلاط والالتباس والقرابة ترد الأمر الى الداخل بل تضعه في التباس الداخل بالخارج. في التباس السلطة بالقرابة والرحم، في اشتباك السلطتين واحدتهما إملاء خارجي والثانية إملاء داخلي. إنه التباس سينجر على بقية كلام السطر «غيمة واطئة»، فالغيمة هي السحاب الواعد بالماء في حين أنها تحبس الجو إذا غام وهي أيضا، للعجب، العطش بل شدة العطش. إنها بين حمل الماء وحبسه وبين الوعد بالري والعطش الشديد، أي أننا أمام ازدواج وتضارب. الأمر نفسه يجري على واطئة، فهي تحمل معنى الانخفاض في المكان وفي المنزلة، لكن وطأ تعني داس وواطأ تعني وافق. هكذا تؤدي «واطئة» معاني متعارضة، فهي التي تحبس الغيمة عن الارتفاع والانطلاق لكنها أيضا تجعلها تدوس أبخرة النهر. إنها هكذا بين التدني والامتثال والاستبداد في آن معا، وعليه فإننا هنا في المابين، في الشيء وعكسه. في المحذور والمحظور، في الإملاء الخارجي الداخلي، في الاستبداد الامتثالي. إننا في حال من الالتباس والتجاذب والانسداد لا ترجمة له أفضل من الكابوس.

تركب أبخرة النهر

الغيمة غير المائلة للمطر والتي تقع بين الصمت الذي لا جوف له والسر الذي هو في كل شيء، بين الصحراء المتماثلة والنبع المتفجر، هي الآن، تركب أبخرة النهر. في الركوب أولا طبيعة الإخفاء والكبت وهي تمت الى التركيب، الأمر الذي ينقلنا الى الترصيع «ترصيع الظمأ للفم» وفي المعنيين شبهة جنسية. فالرصع كما نذكر هو الجماع والسفاد وكذلك هو الركوب في واحد من تورياته الجنسية المبتذلة، ثم ارتكب من ركب والارتكاب إتيان الذنوب. نحن الآن أمام خلاصة أخرى للمحذور والمحظور مجالها الجنس، الكبت والرغبة فالغيمة بين الاثنين، بين الكبت والإشباع. وإذا علمنا أن السر هو أيضا الزنا وله أيضا معنى ذكر الرجل وللرُكب معنى العانة وأن التلصص (التلصص على النائمين في ضفتيه) هو ملتصق ما بين الفخذين بحيث لا تكون بينهما فرجة، فضلا عن أن في التلصص معنى الـ Voiyeurisme. إذا علمنا ذلك، بدا لنا أن في سر النص هذه الإحالة الضمنية على الجنس. الكبت والرغبة يقابلان المحذور والمحظور، ومن هنا نفهم ما في الفجر من فجور. لا شك ان وجهة من هذا النوع تضعنا أمام دلالات إضافية للتوبة والعصفور والتعثر والركل والجبل والفجر والنبع والظمأ والفم والحذر والحظر والصحراء والغيمة. خاصة وأن البناء الحلمي للنص واضح ويمكن بالضبط تأوّله كحلم. لكن هذا ليس مجالنا ولا طريقتنا في هذا التحليل.

تركب أبخرة النهر

إذا كان للركوب هذا الالتباس فليست الأبخرة أقل التباسا وازدواجا. البخار هو ما ارتفع لكن هذا لا يجعله حرا. فالبخر هو أيضا تغير الرائحة وكراهتها ما يعني حبسها. ليس البخار طلقا مستحبا، إنما هو ضاغط مضغوط، مرتفع لكن محتبس في آن معا، شأنه شأن الغيمة المرتفعة الواطئة الضاغطة المضغوطة هي الأخرى. إننا دائما أمام القوة والقوة المضادة مختلطتين متشابكتين ملتبستين. لكن هذا الجذب والضغط من الأبخرة والغيمة لا ينسينا أنها محصورة بين عنصر كابح هو الأحكام العرفية وعنصر حر محرر هو النهر. فالنهر يعني الحفر (انهرت النهر) ويعني التوسعة (أنهر الطعنة) ويعني الكثرة ويعني الإظهار والكشف (انهر الدم) ثم انه يتصل بالنهار بكل ما يعنيه النهار في كتاباته المتواترة من كشف وسعة وإطلاق. عندئذ يمكن أن نفكر ثانية بهذا النبع الذي يتسلل من وراء السياج. بالصحراء المنهالة في القصبة الهوائية، بالغيمة المحبوسة الرازحة على أبخرة النهر، بالسر يُفشى تحت شبكة الأحكام العرفية. الجميع في دائرة المحذور والمحظور أو التفجر المكبوح، لكن للنهر شأنا آخر، إنه على كونه مضافا الى الأبخرة وتحت رقابة الغيمة وتحت ضغط أبخرته المركوبة من الغيمة إلا أنه النهر والنهار، واحد من أقانيم الكون وأوتاده التي لا يمكن حبسها. النهر تابع للأبخرة، إنه في ذيل الكلام لا أساسه إلا أنه مع ذلك كوة يتفتح عنها الكلام أو تفلت خفية عنه فيما لا يزال مشغولا بما يعتمل من تجاذب وصراع داخليين. ينسل النهر من الكلام الذي لا ينتبه وهو سادر في تنازعه بأنه بات على مشرف آخر. بأن «انسلال» النهر الفالت من إطاره يمهد لتغير في لا وعي النص وجوّہ.

تتلصص على النائمين في ضفّتيه

الغيمة لا تزال تتلصص والتلصص في دارجنا يقابل التجسس واستراق النص فيما هو في «لسان العرب» السرقة بإطلاق. لا بد أن النهر تحت الأبخرة والغيمة المركوبة يوازي السر الفاشي تحت الأحكام العرفية، لكنه النهر والنهار وله ضفتاه ولا مجال لحبسه. ثم اننا في استعارة مائية تتتالى من النبع والظمأ الى الغيمة والأبخرة الى ان ترسو على النهر. النهر هو الذي سيكسر معادلة الماء المحبوس والتفجر المحظور، فنحن هنا أمام ماء لا يمكن حبسه أو حظره. الغيمة تتلصص على النائمين والنص كله أحلام نائمين والنائم الحالم هو بطله وراويته، لكن النائمين هنا ليسوا محبوسين في كوابيسهم شأنه بل هم في حضن الضفتين الواسعتين، ولا بد أنهم هناك يرتاحون من عناء صراعهم. وشتان بالطبع ما بين الأحكام العرفية القابضة على السر والغيمة المتلصصة. فالتلصص أعزل ووحيد لا يركب ولا يرزح ثم ان استراق النظر قد يكون فضولاً فحسب وقد يكون افتتانا. هكذا تبدأ الصور المزدوجة في النص في الانزلاق إلى قطبها الثاني. الغيمة تنتقل بسلاسة الى الارتفاع والفضاء والتلصص يغدو رعاية والنائمون أحرارا.

بثقوبها المطريّة الاثني عشرة أو ربما

كنت أؤمن ببساطة ان هذه التورية هي المسؤولة.

الثقب لغة هو اسم لما نفذ والثقب هو الخرق النافذ، تثقّب الجلد إذا ثقّبه الحَلَم والكوكب الثاقب هو الكوكب المضيء وثقبت النار اشتعلت وثقبت الرائحة سطعت وثاقب الرأي نافذ الرأي. أي أن الثقب اسم للنفاذ بمعانيه والضوء والاشتعال والانتشار والخصب. وإذا أضفنا الى الثقوب هنا صفة «المطريّة»، بدا لنا أن الغيمة تخلصت من احتباسها وهلت أو كادت بالمطر. إذا قررنا التلصص هنا بالثقوب بدا لنا هذه المرة تأملا ونفاذا، أي أن التنازع غدا إرادة واحدة وخرج الى شيء من الحسم. لا يعني ذلك إلا أن الضوء سطع فعم الفجر وزال المحذور ولم يقع فحسب وارتفع الحظر وتحرر النبع وهلت الغيمة وانبثق النهر. لقد وصل النص الى نفاذ ولم يكن المتكلم ليقرر أن الأمر ليس سوى تورية لولا أن الصورة أو الحلم بلغا تمامهما. لقد صار الى وعي (تورية) لم يكن لولا أنه صحا من حلمه وقبض عليه. فالنفاذ والخرق والثقب هي في القبض على الحلم وعرضه على التأويل. وعى النص تقريباً انه على هذا المشرف لكنه هم به وليس إعلانا، لم يغادر النص نهائيا إطاره، إطار التنازع، لكنه حاد عنه مع بقائه فيه، تسلل الى خارجه من دون أن يغادره.

التلصص من الثقوب يعني الأمرين معا. لا يقرر النص حلا لكنه يقرر خاتمة. لقد انتهى الأمر ولم يعد سوى تورية.

.................. أو ربما

كنت أؤمن ببساطة، أن هذه التورية هي المسؤولة

استحال الأمر الى تورية. هكذا نعود مجددا الى دائرة الكلام والصمت. إنها تورية والتورية من ورى أي جعل الشيء وراءه والتورية هي الستر لكنها ليست الإخفاء والكبت والحظر. فالتورية التي وصل إليها الكلام، دعوة الى التفسير واستخلاص المعنى، لكن ما يهم المتكلم هنا هو أن الصراع ليس حقيقيا، انه تخايل الصورة والعبارة فحسب. المتكلم الذي قال من قبل انه «يفكر أحيانا» بخطورة «القضية» لا يتجنب القول هذه المرة انه يؤمن ببساطة ان هذه التورية هي المسؤولة. ليس الإيمان بعد هذا التنازع الكابوسي سوى حل بسيط. لا يغيب ان الايمان يتصل بالأمن ومن آمن أجير، وعليه فإن الإيمان لا يتم فحسب «ببساطة» بل هو بسيط في حد ذاته. وإذ ينعت المتكلم الإيمان «ببساطة» ويلحقه بربما التي تفيد التحيير فإن الاستخفاف بهذا الإيمان لا يخفى، فما يريده هو أن يرتاح من المسألة ويبعدها. ذلك أشبه بمن يصحو من حلم مفزع فيطمئن الى انه حلم دون ان يبتلي بتفسير الحلم. يفتح اعتبار الواقع صورا وكلمات مسألة أشق، لكن لا يريد أن يفكر بها بل أن يرتاح بالإيمان من الاثنتين. إنه فقط يريد أن يقف هنا لكن المسألة لا تزال ماثلة. إنها مسألة الكلام التي لن يعنيها التعب والايمان من بقائها مائلة.

تستمر الاستعارة المائية على مشرف آخر، يضعنا دائما مقابل المشرف الأول (النبع والظمأ والفرقة التي تهيل الصحراء في القصبة الهوائية)، بل نشعر أن ثمة موازاة غير اعتباطية بين المقلبين، كأن في المقلب الثاني مفاتيح المقلب الأول.

ترفع بالسطل مخلوقاً أخضر كان ينام بانتظاري

في بئر السبعينات ومنذ الطفولة

نشعر أن البحر يقابل النبع والغيمة والسطل يقابل الفم والمخلوق الأخضر يقابل عكسيا الصحراء. في المقلب الثاني تعويض على الأول، فالبئر نبع يصل الى السطل الفم، والغيمة البئر ترتفع وتهل بالماء والصحراء تخضر. البئر بعد النهر هو الماء غير المحبوس لكن فيه النفاذ الذي دل إليه الثقب، فهو في حفره واستقامته وعموديته معادل للإرادة الواحدة. هل هو ذلك الثقب المطري العملاق بما هو الثقب اسم للضوء والنمو والحكمة. ليس الاستمرار في الاستعارة المائية اعتباطا. ففي المقطع الثاني جواب على الأول. كأن الأحجية في موضع وحلها في موضع آخر. سنجد في المقطع جوابا على تنازع الكلام الداخلي وتنازع الفجر والحظر. سيكون الارتفاع سهلا والماء سهلا ويكفي أن نغرف بالسطل لنجد هذا المخلوق الأخضر النائم بانتظارنا. إنه المخلوق والخلق هو ابتداع الشيء. لقد تحرر هذا المخلوق الذي يحمل أيضا صفات كلامية، فالخلق يعني أيضا الكذب وقصيدة مخلوقة منحولة عن صاحبها. إنه، في الأرجح، مخلوق كلامي ينام بانتظار المتكلم. إنه النائم الثالث في النص. كان النائم الأول يتعثر بنائم آخر والتنازع هنا في المرآة وربما في الكلام نفسه. أما النائم الثاني فقد تنازعه النبع والظمأ والرمل المنهال في فمه. إذا كان النائم الأول لا يخرج الى اليقظة ويتصارع مع نفسه عليها فإن النائم الثالث نبغ وابدع. إذا كان النائم الثاني ظمآن متصحر فإن الثالث خرج أخضر من الماء. لقد انفتح باب الخلق. انفتحت نوافذ مسدودة منذ السبعينات، الجيل الشعري الذي كان سركون من نشطائه. لن تعطفنا هذه الإشارة التاريخية الى مقاربة أخرى.

يمكننا الآن فحسب أن نفسر تعثر النائم بصورته بأنه تصارع لغتين وتجربتين في داخله. يمكننا أن نرى في هذه الصحراء المنهالة في حلقه انسداد لغة. ليست المناسبة الخاصة سوى ذريعة لرؤية أخرى، رؤية الإنسان ككائن لغوي. رؤيته كأركيولوجيا لغوية وإقامة في اللغة رؤية اللغة كجسد داخلي ووجود ثان يعاني كاختناق رئوي وكحظر وتحريم وكفجور وعصيان وزنا، كما يعاني كانفجار مكتوم وانقطاع وصمت، لا يخرج المرء من هذه الأزمة بإيمان بسيط أعمى.

أو ربما كنت أؤمن ببساط الريح

إيمانا أعمى لا يشفيني منه علماء الجاذبية، حيث القصائد

لا تحتاج الى مجذاف لتعبر بنا جميعاً إلى الضفة الثانية

إنه الإيمان بما يستدعيه من أمن وأمان وهو ليس بسيطا (كما يستدعي ثانية كلمة بساط) بل أعمى أيضا، والعمى ليس ذهاب البصر فحسب بل هو الجهل والبعد عن الرشد. لا يذكر المتكلم الإيمان إلا ويردفه بنعت يقلل منه. إنه الآن الأعمى بعد ان كان البسيط. يحيرنا الشاعر حين يجعل إيمانه في ما لا يحتاج الى إيمان (التورية، بساط الريح) بينما يحجبه عما يحتاجه (القضية). حين يتعامل مع إيمانه باستخفاف ويقرنه بمزاح صريح (لا يشفيني منه علماء الجاذبية). إنه إيمان بالتورية ضد الحقيقة وبساط الريح ضد العلم، إيمان مضاد، إيمان من لا إيمان له. إيمان ببساط الريح قد يكون كناية عن الخيال أو الحرية أو الإيمان البسيط نفسه، لكننا إذ نجعله مقابل الغيمة المحبوسة الراكبة على الأبخرة نفهم أننا أمام زوال المحذور والمحظور، أمام حرية بلا عوائق. بالسهولة نفسها التي ينتقل فيها بساط الريح تجري القصائد بلا مجداف الى الضفة الثانية. يسمي الشاعر أخيرا الشعر. قد يكون المخلوق الأخضر الذي ينبجس من الصراع والانسداد والكبح، قد يكون النبع والفجر. نقع أخيرا على تسمية لكن الشاعر يخسر حين يسمي. فكل تسمية تختزل التجربة وكل تسمية عرضة بأن تتحول الى كليشيه. لم يسم المتكلم فحسب بل ساق ذلك في عبارة مقصودة وواعية وشبه متواترة (لا تحتاج الى مجذاف لتعبر بنا جميعا الى الضفة الثانية). شيء من الدعوة في هذه العبارة. إنها إرادة الشاعر في يصل بنا الى خلاصة، تعبه من غموضه والتباسه وتشويشه. تضحية لا بد منها لليقظة والخروج من الارتطام بالنفس والتحرر من الاختناق تحت الأبخرة. تضحية وربما، كما يذهب بلانشو، خروج الى السطح خوفا من الغرق والاختناق في الأعماق. لكننا لن نبقى طويلا في هذا المستراح فسنقع على تعريف للشعر ليس بسيطا ولا أعمى.

وكل كلمة فيها كوة سرية يتجسس منها الماضي

على الأحياء.

يعيدنا هذا إلى الغيمة الواطئة التي تتلصص على النائمين ولم تكن هذه حرة ولا عالية. التجسس وهو التفتيش عن بواطن الأمور يقال أكثره في الشر. الشعر إذن ليس بالبراءة التي ينسبها إليه هولدرلين، فهو ليس خالصا من الأذى والشر. ثم انه كوة سرية وفي السرية أيضاً فضلاً عن الخفاء معنى الانحراف والإباحة، أما الكوة فهي خرق في الحائط والخرق لا يبتعد عن الخَرقَ ثم أن أصلها من كوى وهي على هذا تتصل بالكي. الشعر هنا ليس نظر الأحياء الى الماضي بل تجسس الماضي على الأحياء. يتراءى لنا لأول وهلة أن المعنى مقلوب وأن الأحياء هم الذين يتجسسون على الماضي. إنه مقلوب عمداً، فنحن نرى مجددا هنا الغيمة الثقيلة تتلصص على الأحياء، معنى مقلوب لأن للشعر هنا وجودا قبليا. ليس إراديا ولا شخصيا، إنه الكوة التي يتجسس منها الماضي على الأحياء. إنه الحامل والوسيط والشاعر يتكلم عبره ليس إلا. إنه الماضي الذي أراده الشاعر للآن أن يكون محل الصراع الذي انتظم واخترق كل النص على مراحل، محل الأحلام الثلاثة التي استقطبت هذا الصراع وبسطته. لا بد أن كابوس اليقظة وكابوس العطش وكابوس الكبت والمراقبة دارت هناك. كان الصراع داخل هذه الأركيولوجيا اللغوية والتاريخية التي لم تزل وتذهب كما يعرف القاموس الماضي بل لا تزال على «المضاء» الذي يتصل أيضا قاموسيا بالماضي. ليس الشعر بساط ريح سابحاً فحسب، إنه سلطة متكاتفة ومتكاملة تنبش بواطن أحياء فرادى. سيكون الشعر مجددا هو ذلك الصراع الكابوسي الذي لا يزال صاحبه يرتطم بنفسه ولا يصل الى لحظة خروج إلا بما يشبه المعجزة، بالإيمان البسيط، لكنها لحظة لا تسود. لا تسود لحظة الإبداع والحرية والطيران، إذ تعود السلطة الى مكانها والصراع الى مداره. ليس هنا من حاضر أمام هذه السلطة القبلية، ليس سوى أحياء فرادى تضعهم الحياة في الآن لكنها لا تجعل لهم زمنا. إنهم تحت عسف الماضي بدون أن يكون لهم ملجأ. إنهم تقريبا بلا صفات، ليسوا سوى أحياء فحسب. الشعراء منهم ولن يكونوا سوى موضوع للشعر. سيركبهم الشعر كما تركب الغيمة الأبخرة، ستتلصص عليهم من ثقوبها المطرية الاثني عشر. عدد الشهور. الزمن يتجلى هنا لكننا الآن نفهم انه الماضي. أليست الكلمات كوى سرية. أيننا إذن من بساط الريح ومن الجريان بلا مجذاف، أيننا من الحرية داخل الشعر، إذا حل الشعر وحلت اللغة محل الكابوس ودار الصراع في داخلهما. إذا لم نكن سوى فرادى ضائعين تحت عسف الكلمات. ليس الشعر بعيدا عن الشر وعن الحظر وعن المراقبة. إذا بدا غير ذلك فهو الإيمان البسيط الأعمى واللحظة الكاذبة لولادة القصيدة، إنها لحظة إفلات قبل ان يتسنم الشعر مجددا ويعود الصراع إلى أوله.

***

في تقديمه لقصيدته «حانة الكلب» يروي سركون أنه لاحظ وهو يسوق في شارع «الـ كامينو رويال» يافطة على بار استرعت انتباهه للحال فتوقف عندها كأنه وجد فيها سر أميركا، هي «حانة الكلب». حانة الكلب على طريق الملوك ملوك الروح. أما المعنى الذي وجده سركون فيتأرجح بين الكلبية والقداسة. ولن أعلق على تقديم سركون إلا بذكر معاني «الكلب» في «لسان العرب». الكلب كل سبع عقور. الكلب جنون الكلاب، كلب عليه غضب أو سفه، والكلَب أنف الشتاء وحدته والكُلبة كل شدة من قبل القحط والسلطان وعثرة. عام كَلِب جدب. يتكالبون على أمر، يتواثبون عليه. كلب الشوك إذا أسف. كلبت الشجرة إذا انجرد ورقها. أرض كلبة إذا لم يجد نباتها ريا، كلَبه الشجر خشنة يابسة لم يصبها الربيع والكلاّب والكلوب السفود والكالب المسمار في قائم السيف. والكلب العطش. والكلب القيادة ومنها «القوادة». الكلبتان القواد. لا أعرف إذا كان سركون راجع مادة كَلب في القاموس. لا أحتاج الى التحقق من أمر كهذا فأنا أحسب أن الشعر يقدم نيابة عنا بأمر كهذا، وحين يخترقنا فإنه يشحننا أو يحرك فينا كل هذا الأرشيتب اللغوي.

  

***

حانة الكلب*

سركون بولص


إذا كنت نائماً في مركب نوح وأنت سكران

ما همك لو جاء الطوفان

رومي

لا أخفي عليكم أنني أنا أيضا

أفكر أحيانا بماهية الشعر بخطورة القضية

بنوع من التوبة كما هي حال الجميع وفقر العصافير

الأسطوري وفي أغلب الأحيان

وأنا نائم أحلم أنني أتعثر برجل نائم تحت جبل

وأركله لأوقظه برفق أولا ثم بتهور وصراخ حتى يستيقظ،

ويوقظني

وأحيانا يكون الفرق الوحيد بين الحياة والنوم

هو هذه العلاقة الزجاجية بين المصادفة والقصد

بين أن تستيقظ بنفسك، أو أن توقظ، بواسطة حذاء

حتى إذا لم يكن هناك جبل حتى إذا لم يكن هناك!

ذات فجر يقع المحذور برمته ودون مصالحة

كما يقول صديقي

الذي كتب أطروحة عن صمت أبي الهول

لنيل شاهدة الدكتوراه باليانصيب

ذات فجر يقع المحذور ينتقل فيه نبع القرية

من وراء السياج إلى فم رجل نائم يرصّعه الظمأ

يحلم أن فرقة مدربة من الأعداء

تُهيل الصحراء بالرفش وطوال الليل

في قصبته الهوائية، دون كلل، ذات فجر

عندما يقع المحذور ويُحظر التجول ويُفشى السرّ

تحت شبكة الأحكام العرفية غيمة واطئة

تركب أبخرة النهر

تتلصص على النائمين في ضفّتيه

بثقوبها المطرية الإثني عشرة، أو ربّما

كنت أؤمن ببساطة، أن هذه التورية هي المسؤولة

ترفع بالسطل مخلوقاً أخضر كان ينام بانتظاري

في بئر السبعينات ومنذ الطفولة

أو ربما كنت أؤمن ببساط الريح

إيماناً أعمى لا يشفيني منه علماء الجاذبية حيث القصائد

لا تحتاج إلى مجذاف لتعبر بنا جميعاً إلى الضفة الثانية

وكل كلمة فيها، كوّة سرية يتجسس منها الماضي

على الأحياء.

في حالات كهذه عادة

أحوم حول أسوار العالم حيث أسجل في دفتري

مواقع الثغرات بدقّة

وأضيفها إلى الخارطة بالمسامير

أفكر بجبران بن خليل يسير في نيويورك

بشجاعة الحالمين،

بأبي فراس أسيراً في بلاد الروم

يخاطب (على بحر الطويل) الحمامة

وعندما أكاد أنسى العربية أغمض عينيّ وأحلم

لأستحضر المعجم من الذاكرة في رأسي

مركب نوح في بحر متلاطم من المخلوقات

تدوزن كل سمكة فيه حراشفها وهي تسبح

في /على عتبة/ خارج نافذة

مشرعة على مصراعيها

وسط لساني

موسيقى ربع اللحن

بيات أصفهان سيكا همايون

الشرق يدندن على العود في آبار الجهة الغربية

وعلى حين غرة

وعنوة

وبالكاد ولكن تماماً

كأنما في موسم للرجم بالحجارة

يصب فيه الجميع سخطهم على النوافذ

في قصور الذئاب المالكة

يظهر راوية

ذئب مهلهل الثياب

حاد يهلهل هامساً يهمهم بالهلاك

يروي عليّ كالسيل

ويل الشعر: رأس مشعث يثب من مناماتي

من قراب ذاكرتي

من حجارة المعرّات حيث الشعراء يطالبون بأن يُسمَلوا

ليفتحوا حواراً مع رهين المحبسين

أو أقرب العميان يهمهم بالهمس يهلهل بالهلاك

كأنني فتحت حنفية المحيط بمطرقة

يروي عليّ كالسيل ويل الشعر رعش الليل

وقيل إن شاعرا جاب ممالك مؤرقة

تحكمها بمشاعل من ذهب

خالص رعشة وحيدة

تحاول الفرار من ثغرة في رسغه

كان يجلس في الإيوان المهيأ لذوي المظالم البعيدة

كان يجلس في الديوان المهيأ لرمل لا يعرف مستقراً

ينتظر قافلة منسية في بئر الآلاف

بيدين ضارعتين

ديباجاً ترفوه يداه اللتان تتجاهل إحداهما الأخرى

وحبراً وفيراً يسيل على حين بغتة

إلى وريد البائية الأبهر من قبر الحائية الكبرى

من يديّ الأعمى الذي نظر إلى أدبي

بعينه الثالثة وبكى

كان رحمه الله يصبّ العزلة في إناء من الفضة

كل مساء أو نحوه و ما إن يشرف الغروب

على الهروب وإذ يرفعه إلى شفتيه

(أي الإناء لا المساء) كانت

والله أعلم

(هنا قد يهزّ الراوية كتفيه

أو يقهقه بجنون أو ربما يجهش بالبكاء)

أفعى رقشاء مكحولة العينين بتوابع الزوابع الرمادية تصعد

بدلال

وغنج من باطن الإناء

وتقصد الراحة

في حاجبيه الكثين = رأس

يثب فجأة من خندق فمي

حين أفتح شفيّ من الظمأ

يتسلق أسناني

أكياساً من الرمل

هاجماً إلى الأمام

شعره مشعث ولكن

في فمه كالإعجاز

تتذأبن الحمامة

يهدل الذئب

يذكّرني

بالحروب بالحصارات

وأحياناً بحزن

ينصب

منجنيقات الضوء الصدئة

حول قلعة أوهامي التي نهضت

وتركت مكانها على التلة

ذات ليلة

ذئبي

الذي يهدل بين الخمائل بعذوبة، حمامتي

التي تصيد الحملان لتذكرني

بالطرق الطويلة التي قطعتها

لتصل

وتنقذني بوصولها

من التبوّل في فوانيس القطارات

ومضاجعة التلال المجنزرة بأفخاذ العذارى.

ثم نامت الصحراء، واستراح التراب.

وجدت نفسي نائما

في حانة السلحفاة والأرنب

في حانة الكلب والثعلب ورجل الأعمال

في حانة الخلد والفراشة والعظاءة والقرد

بجانبي مقامر نائم

تتدلى ذراعه من الكرسي

وفي يده ملكة دينارية وجوكر.

أطباء ملتحون، حلاقون وعارضات أزياء

أساتذة وتجار ماشية وتجار أسلحة ومهندسون

يدللهم الحاكم والنائب والله

وتحرسهم الدولة بالمدافع

بحياة آلاف الشعراء والعاطلين إذا اقتضى الأمر

يتقاضون أجورا عالية لن أطالها حتى

في أكثر أحلامي تفاؤلاً

في عطلة رخية على المحيط الهادي تحت القمر الغربي

الذي يحمل كتابات بالإنكليزية وبالروسية

في جانبه المظلم، لافتات

في «بحر الهدوء» تعلن مالكيه

وجدت نفسي نائماً في الجانب المظلم من العالم

أثقب كل صباح في مكتبة الآلام العامة عن جذر

يربطني بك، أنت، دائما وحتى

أنني أتردد في أن أسميك لأنك، لست امرأة

أو الأرض أو الثورة، شجرة فقيرا حذاء في الطوفان

لا أسمي أحدا بالضبط لكنني

أريدك أن تشعر بخطورة القضية! لكننا نبدأ عادة

بالبداية أي الخروج بكل ما نملكه من الصدق

نحو الفريسة

التي ستقودنا إلى قلب المعنى

لأن المعنى دائما هناك يدخن صابرا في نهاية القصيدة

منتظرا وصولك وهو يبتسم باحتقار وأنت

تلهث أو تبكي أو تصل بقدم واحدة

أو مشلولا من النصف أو ميتا من التعب

يطاردك الدائنون بهراوات القانون أو في نقالة المرضى

أردت أن تكون هذه قصيدة

تجرب فيها أن تهاجم نفسك بالقلم والجوع والمشاعل

والحجارة؟

ليصب بعض الدم في حضن القارئ؟

لكنني ويجب أن تصدقني (أعلم انك ستصدقّني!)

أؤمن بأنها ضرورية إيمانا غريبا يفاجئني

لأنني لست واثقا من نفسي حين أقول هذا!

لذلك أخرج لأشتري علبة سجائر

في أعماق الليل وأزور صديقي

لنناقش الشعر ونقذف المسبات في وجه الغرب

حيث نعيش كلانا مؤقتا بالدين

وبنوع من الشعور العميق بالعمى

والتبوّل بإسهاب على تابوت الرأسمالية الباهظ التكاليف

كأننا شربنا برميلا كاملا من البيرة الرخيصة.

أطرق على الباب

ثم أطرق على الباب ثم أصيح ولك قواد! لك أخي

افتح يا هذا

وأسمع حركة متراجعة كالريش نحو الأعماق

ثم صوتا بإنكليزية زنجية تشوبها لكنة فلسطينية لا تخطأ

ولوا يا أولاد القحبة

ماذا تريدون

لن أعترف لكم لن أعترف ك، س، م، ح، (غمغمة غير

مفهومة بأية لغة /// (ضحكات يائسة بالعربية)

في الصباح أذهب إلى فلمور وهو حيّ الزنوج

في سان فرنسيسكو على طريقة هارلم في نيويورك

لأزور صديقي الفلسطيني

في دكانه المسيج بالقضبان (جميع الدكاكين في أحياء

الفقراء بأمريكا

مسيجة بالقضبان) صباح الخير

كيف الصحة أبو الشباب؟ وكأنه يقذف باتجاهي

قرحة مزمنة:

بلاد العرصات

بدك تشنق حالك، مش هيك؟

بيخلوك تروح تستأجر شجرة! وإلا عمود تلغراف؟

كيف حال الشعر هذي الأيام؟

لعلك أدركت قصدي، من الواضح كما ترى

أنني أهدف إلى شيء غامض قليلا

لأنه لم يكتمل بعد وأقول هذا بمنتهى البساطة

أيها الصديق لا أريدك أن تسيء فهمي

هذه كلمات بسيطة مكتوبة بالعربية بالمناسبة

أذكر هذا لكي لا تتهمني بأنني تأثرت في كتابتها

بشاعر «عالمي!»

أي شاعر يخاطر بالكتابة على هذا النحو

لن يكون حتى محلياً! وسيقضي سنواته الباقية

بعيني نسر محموم أو رجل ينتظر زيارة صاحب البيت

الشهرية وهذا يعرف جيدا أن الرجل الفقير لا يستطيع

أن يدفع الإيجار

لكنه مع ذلك وللتسلية، أو إشباعا لنزعة غريبة في

الإرهاب، أو ربما لأن الكلب

يعرف أن شرطة العالم والتاريخ كلها تقف من ورائه

يقرع الباب بحذائه، وخصوصا بالكعب

المليء بالمسامير ...

سيقضي سنواته الباقية إذن بانتظار الجلاّد

الذي سيأتي متنكرا ببدلة ممرض رسمي طيب القلب

يخفي وراء ظهره سلسلة حديدية وسترة للمجانين.

ابتسامته الكاذبة ستملأ الأرض بموضوع هذه القصيدة

(سان فرانسيسكو 1975)


*من كتاب «إذا كنت نائماً في مركب نوح»، منشورات الجمل- 1998