أزيحت الستارة الشفيفة في غرفة الفندق. ريح هينة لا تزال، في هبوب خفيف. يلتفت نحو النافذة ولدٌ صغير في عائلة تتناول غداءها المتأخر على عشب الحديقة المجاورة. وراء الحديقة ترتفع القباب المثلثة في ”مركز مولانا الثقافي“. يفصلنا عنها بلور النافذة المبقع بالغبار وبقايا أمطار نيسان، وأسلاك شائكة سود تتلولب مغروسة في سور الفناء الكبير، مثلما كنا نراها تلمع بضآلة فؤوسها عند الحدود، حدود كانت تعبرها فيما مضى، بين شمال سوريا وجنوب تركيا، صرر التبغ وهدايا من صناديق الشاي. ربما فاض نهر صغير هذا الربيع فأطلقت السدود سراح مياهه فجأة، لتعود إلى قمامة مجراه الجاف في سوريا، وتطفو على زبده ووحوله حبات جوز، وتنجرف معه ألغام منسية نسي الجنود الأتراك أين زرعوها في الحقول، فوق سكك القطار أو تحتها، ثم ينتهي لغم بين أطفال عابثين ويفقد أحدهم وجهه ويديه. في عامودة التي ولدت فيها، من طمي تلك الفيضانات بنى رجل وحيد مسجداً طينياً أحمر اللبنات، كقربان صغير من حجرتين وصالون يستغفر به ربه. قيل إنه مسكون، وكان المؤذن يذهب ليؤذن لصلاة الفجر منتضياً سكيناً. ارتدت ذاك المكان القصي، دون أن أصلي، وقرأت في هناءة ظلاله مختارات من ”المثنوي“ نسختها في دفتر بخط يدي. كانت الأبواب مفتوحة كذلك للدجاج والديكة الرومية، تصيح وتدخل وتخرج، وفي جدار المدخل شق عريض يتثنّى، إذ ثمة في قلب الحائط جذع ناحل لنبتة برية أورقت على السطح الترابيّ، والعجائز بعد الانتهاء من صلاتهم يشربون شاي العصر في الفناء تحت شجرة رمان، فتأتي قطة وتتمسّح بكواحلهم. كانت ثمة في خزائن الحيطان نسخ قديمة من القرآن مكتوبة بالعثمانية احتار الإمام أين سيدفنها بعد اهترائها، أغلفتها المخملية البنية مطرزة بخيوط ذهبية وبيوت العناكب منسوجة فوقها دون أن تُمسّ. كانت صفحات تلك المصاحف فتاتاً من القش والحبر. أظن إن الإمام أحرقها في سرير النهر الجاف نفسه، غير نادم على ما اقترفته يداه، والفيضان بعثر رفاتها بين القرى.
ينتمي كتاب الباحث السوري محمد جمال باروت ”التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية–أسئلة وإشكالية التحوّل من البدونة إلى العمران المدني“، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (1022 صفحة)، إلى كُتب علم الاجتماع السياسي الموسوعية، تلك التي تحاول دراسة الأصول ”التاريخية“ لتكون اجتماع سياسي حديث في منطقة جغرافية وزمنية بعينها.
حزب التاريخ المختار
ليس ثمة حزب شيوعي في المنطقة العربية (وربما خارجها) ظل يرسي برامجه على مشروع الإستيلاء على السلطة أو الوصول إليها غير الحزب العراقي. تبنّت برامج أحزاب شيوعية عدة هذا الهدف وحققته. وراود أحزابا أخرى، كالحزب الشيوعي الإندونيسي وتودة الإيراني، لفترة من الزمن. لكن هذا الحلم (أو الكابوس) ظل راسخا في العقل الشيوعي العراقي منذ إسقاط النظام الملكي عام 1958 حتى أواخر الثمانينات حين اقتلعت حملة الأنفال الدموية التي شنّها النظام العراقي الحركات المسلحة، بما فيها الحزب الشيوعي، من كردستان العراق وأجبرت من تبقى من قادته وكوادره على النزوح إلى المنافي. حتى في الفترة التي انخرط فيها الحزب في جبهة مع حزب البعث منحته مقعدين وزاريين ثانويين كان تثقيفه الرسمي يركّز على أن هذا التحالف يهدف إلى إنجاز ”ثورة وطنية ديمقراطية“ تمهّد للإنتقال إلى الإشتراكية التي لا بد أن يقودها حزب الطبقة العاملة، وهو بالتعريف الحزب الشيوعي الذي قد يضم آنذاك حزب البعث المتحول إلى الماركسية-اللينينية على غرار التجربة الكوبية حين تبنى فيديل كاسترو تلك الفلسفة وأسس حزبا شيوعيا ضم الحزب القديم إلى صفوفه.
لم يَبْدُ ميشال فوكو مستعجلاً الإجابة حين كتبتُ إليه، في مطلع الصيف من سنة 1979، طالباً إليه حديثاً ينشره النهار العربي والدولي: وهذه أسبوعية كانت تصدر إذ ذاك في باريس ومرماها الأول أن تتيح للنهار، كبرى الصحف اليومية في بيروت، أن تجانب وطأة الحضور السوري في العاصمة اللبنانية. كانت المواقف التي اتّخذها فوكو من الانتفاضة الإيرانية لا تزال تثير لغطاً تعدّى نطاق الأوساط الباريسية، ولكنه كان يرى أنه أفضى بما عنده في هذا الموضوع قبل بضعة أشهر.[1] ولا ريب أنه كان قد عانى ”مرضاً“[2] وكان لا يزال متعباً من أثره وهذا ما عاد إليه تكراراً خلال محادثتنا. وقد اقتضت الحال تدخلاً من صديق مشترك هو محمود حسين[3] حتى وافق على مقابلتي وبعث إليّ برسالة مفعمة لطفاً خيّرني فيها بين تواريخ عدّة للقاء واقترح أن تكون شقّته مكاناً له. وطوال المحادثة، بدا، فضلاً عن استفاضته في الكلام، على قدر مذهل من الرهافة في التصرّف مراعياً حداثة عهدي بالمهنة[4] ومحاولاً إسداء المعونة والنصح بصدد التنظيم المادّي للمحادثة وتسجيلها. وهو قد أبدى كثيراً من الصبر أيضاً فراح يؤكّد أن الأسئلة في محلّها حتى حين كان يسعه أن يجد في الإجابة عن بعضها حرجاً. على أن تنوّع المسائل المطروقة قد يكون فاجأه، وأزعجه أيضاً تمادي الوقت الذي استغرقته المحادثة. فذكر الحُمّى التي كانت تؤذيه وعجزه عن مواصلة الجلسة ولكنه أكّد لي أن ما كان قد قيل يتجاوز الصفحات المتاحة لمثل هذا الحديث في صحيفة أسبوعية[5]. غير أن ما لا أزال أجده خارقاً هو أنه كان ما إن يشير إلى حال الإنهاك الواضحة التي بلغها حتى يستأنف كلامه بعزيمة تامّة من دون أن يعرو فكره أي تباطؤ. بل إن فكره كان يزداد حدّةً خصوصاً وهو يجابه ما تعرّضت له أقواله من سوء التأويل.
روى لي صديق لبناني، وقد كان كاتبا، أنه لم يكن يستسيغ ردود القراء على مقالات الكتاب التي تنشر على شبكة الإنترنت. ولسبب يتعلق ببيروقراطية عائلية في المؤسسة التي كان يعمل فيها، وهي مؤسسة صحافية عريقة، استمر موقع هذه المؤسسة على الإنترنت متخلفا عن غيره من مؤسسات أقل عراقة وجدية وتأثيرا على حد سواء. وفي حين كان زملاؤه الكتاب يشتكون من عدم نشر مقالاتهم على الشبكة، كان هو مغتبطا بهذه المجهولية التي فرضتها عليه بيروقراطية طارئة.
تتكاثر في مرويات خليل خالد الفغالي (من مواليد 1934 في ضيعة المريجة، وسجلت رواياته في 2010) حكايات وأخبار عن رجال - شخصيات، يكشف تكرارها عن ملامح من نمط العيش والعلاقات بين الأهالي في قرى ساحل المتن الجنوبي في النصف الاول من القرن العشرين. تتناول هذه الحكايات والاخبار القبضايات، أزلام رجال السياسة المحلية وزعمائها، المفاتيح الانتخابية، شبكة علاقات هؤلاء جميعاً بالإدارة العامة والمؤسسات القضائية والأمنية وكبار موظفيها من جهة، وبالأهالي من جهة أخرى. تحضر في المرويات أيضاً أخبار عن علاقات القبضايات في ما بينهم، خلافاتهم، ومنازعاتهم المفضية أحياناً الى جرائم قتل وثارات شبه مافيوية يتبادلونها، فتودي ببعضهم الى السجون. ولنواطير البساتين وأقنية الري في القرى، للباعة الجوالين، والطيّاح من قطّاع الطرق الهائمين على وجوههم فراراً من مطاردات العسكر العثماني في عشايا الحرب العالمية الاولى وغداتها. حضورهم في المرويات التي تشكل شخصياتها هذه، اضافة الى الرواة أنفسهم، منعقد أو بؤرة لتراث شعبي حكائي، لم يتوقف الأدب الشعبي والفولكلور اللبنانيان عن النهل منهما واستلهامهما ومحاكاتهما.
مقدمة
تبقى قضية الاشتمال السياسي (political inclusion) مصدر قلق كبير للدول السائرة نحو الديمقراطية. مجموعات كثيرة تم استبعادها وقمعها من قبل انظمة سابقة، فأي منها ينبغي اشتمالها اليوم؟ وأي يجب استبعادها؟ ومن الذي يقرر؟ مع الأحداث الاستثنائية للانتفاضات العربية التي اندلعت في 2011، بات عدد اللاعبين السياسيين المنخرطين بشكل مباشر في عمليات التحول السياسي أكبر من اي وقت سبق. غير أن المؤسسات السياسية الجديدة لا تزال غير مستقرة كما يبقى توزيع السلطة بينها غير واضح. ما حدث يمثل لحظة هامة وتاريخية وديمقراطية، حتى لو كان مصير بعض تلك التحولات مجهولا. ولكن الاكيد أن عملية إصلاح شاملة على نطاق واسع باتت أمرا ضروريا ومطلوبا لاي حكم ديمقراطي ذي مغزى. أما من الناحية العملية فلا يزال الكثير من المواطنين يخشون احتمالات خطف سريعة للتحولات الناشئة.
السخرية والفكاهة والضحك خرق وتجرؤ، العلوم اللغوية تعرف ذلك حق المعرفة، مبادئ غرايس الشهيرة في علم التداولية (البراغماتية) تظهر أن خرق المتصالح عليه في المجتمع والثقافة الإنسانية يفضي حتماً إلى الضحك.
تونس بلد صغير المساحة، يمسح 164 ألف كلم مربع ويقطنه حوالي 11 مليون مواطن، وقد جعلته جغرافيته وتاريخه في وضع تجاذب بين الجوار الأوروبي من جهة، والارتباط الثقافي والروحي بالمشرق من جهة ثانية. وإذا جاز الحديث عن «خصوصية تونسية»، فإنها تتنزّل في إطار هذا التجاذب. فلقد تأسست تونس الحديثة منذ القرن التاسع عشر في سعي دؤوب لإيجاد توازن إيجابي بين هذين الارتباطين. وقد بدأت هذه المحاولات منذ عهد حمودة باشا (1782–1814) الذي عاصر الثورة الفرنسية وفهم أنّ العالم قد تغيّر وبدأ باعتماد سياسة تنأى بتونس عن المطامع الأوروبية مع الانفتاح على الحضارة الأوروبية الجديدة، وتحافظ على الولاء للدولة العثمانية لكن مع الحرص على تمتيع البلد بقدر كبير من الاستقلالية عن السلطان العثماني. وكما يقول المؤرخ د. رشاد الإمام: «إنّ عهد حمودة باشا كان ذا أهمية أساسية في تاريخ تونس الحديث، بل كان يمثّل في أوجه عدّة العهد الذي بنيت فيه ركائز الدولة التونسية الحديثة»[1] . ولا بدّ من الإقرار اليوم بأن هذه المحاولات المستمرّة منذ القرن التاسع عشر قد ظلّت هشّة، وأن «الثورة» التي نجحت يوم 14 كانون الثاني (يناير) 2011 في إسقاط النظام السابق قد أثبتت بجلاء هذه الحقيقة التي طالما حصل إخفاؤها بعد الاستقلال بالخطابات المطمئنة حول «الأمة المتجانسة التي اختارت دون رجعة طريقها للحداثة».
ليس سهلا أمر البت في مسألة بحجم وتعقيدات العلاقات بين الحداثة وحركات الإسلام السياسي، في معالجة تبلورت في خضم أحداث كبرى في منطقتنا العربية، عصفت، أول ما عصفت، بما كان أشبه بيقينيات جديدة في مجال الفكر والنظر وفي مقدمتها نظرة خاصة إلى الحداثة وموقعها في الحياة السياسية على الساحة العربية. هذا علاوة على أنه لا يمكن أن يكون هناك قول فصل في قضية شغلت الفكر الإنساني لقرون مديدة، وأفنى العمر العلمي في سبيل الإحاطة بمختلف أبعاد إشكالياتها كبار المفكرين والباحثين في مختلف مجالات العلم والفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة. أضف إلى هذا وذاك، أن الهدوء الضروري للتفكير في قضايا بهذه الأهمية والحيوية في حياة شعوب وحضارات ما يسمى بالأزمنة الحديثة، ليس من مميزات الواقع العربي والدولي الراهن، واقع التقلبات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والسياسية العاصفة. لذلك، فإن ما نقدم عليه هو نوع من المجازفة بإعمال النظر في لجة الحركة وغليانها الذي هو أشبه بحركة البراكين والزلازل منها إلى حركة الفكر في ميادين الاجتماع البشري على هذه البقعة الجغرافية السياسية.
البحيرة التي قبالة سكني هنا أصبحت متجمّدة تماما. إنها تشبه صحنا جليديا كبيرا، ما عدا بقعة صغيرة تترقرق فيها المياه دائما.
...قريبُنا لاقاني في المطار حاملاً معه جواز سفري، لكنّني لم أجد في ذاك الجواز صورتي التي أعطيته إيّاها. كانت هناك صورة لامرأة كبيرة في الثلاثين أو نحو ذلك، أي أنّها تفوقني حوالى عشر سنوات، وكان في أنفها حلق. كذلك كانت المرأة صاحبة الصورة تلبس الساري وأنا لم أكن حينذاك أعرف كيف يُلبس الساري. لكنْ أيضاً، وهذا هو الأفدح، كان في الجواز اسم غير اسمي: إنّه «رويسي».
يريدنا كتاب بولس الخوري أن نوغل، عند اختيار مدار للحوار بين الإسلام والمسيحية، نحو ما هو جوهري. وما هو جوهري، في عرف هذا الباحث العارف، إنما هو الإيمان. وهو يرى أن إدراك هذا المدار يقتضي منّا الوصول إلى ما وراء المنظومتين الدينيتين: المسيحية والإسلامية. هاتان المنظومتان ينسبهما المؤلف إلى الثقافة، أي إلى بيئة يستوي فيها الروحي موضوعاً فيعود غير ماثل في الروح أولاً. وإنما هو يَدْخلها – إذا دخل – من أبواب مفتوحة على الخارج ويأتي إليها بحمولات العالم اللاشخصي. ومع أن المؤلف يفسح من كتابه معظم صفحاته لوصف المنظومتين المشار إليهما وبسط ما فيهما من عناصر وما تتشكلان به من علاقات وتنطويان عليه من دلالات، فإن بعض عباراته تعاملهما على أنهما أشبه بعبء على الإيمان وأَوْلى بأن تعتبرا عقبة أو شبكتين من العقبات، بالأحرى، في طريق الحوار. وما ينصبه الباحث في وجه المنظومتين المشار إليهما إنما هو منظومة وقائع ثالثة يراها غلابة ويبدو منه ميل إلى التسليم بسلطانها، وهي ما يسميه، هو وغيره، الحداثة.
خرجت من سورية، ولا فخر، كلمة الشبيحة إلى العالم ولغاته، بينما كان المسمى يخرج إلى «الشارع» السوري كالجنّي، يروع ويقتل، ويكره ويقذع في البذاءة. «يُشبّح». ودخلت اللغة العربية ذاتها كلمة لم تكن معروفة خارج سورية، بل لم تكن معروفة في سورية نفسها على نطاق واسع. ولم تلبث أن أدرجت في عائلة من الكلمات النسيبة: شبّح، يشبّح، تشبيحا؛ وأن جُعلت علماً على الموالين للنظام، يقابلها «المندسون» التي استصلحها المعارضون الشباب عنوانا جامعا لهم؛ وأن أدخِلت في سياقات جديدة: شبيحة القلم (رنا قباني)، شبيحة المعارضة، شبيح الفلاسفة، وهذا لقب سوري لبرنار هنري ليفي.
الثورة حلَبة واسعة تتّسع للجميع. انها الحضن الدافئ، المضياف، السخي. انها زمن الغبطة والأمل والحلم. انها العيد، أو «الكرنفال»، كما وصفها بعضهم. كم من المشتركين فيها عبّروا عن سعادتهم بها، عن ولادتهم الجديدة، عن انبعاثهم، بفضلها، من بين الأموات؛ كم منهم بكى فرحا بها وابتهاجا.
تكمن أهمية الصور الرقمية ذات الجودة المتدنية (low resolution) والمبكسلة (Pixelated) في كونها أتت بالأساس من خارج السلطة ومؤسساتها الرسمية الفنية والإعلامية من متاحف ومراكز فن وصولاً إلى قنوات التلفزة والصحف وغيرها... ولكن ما نلاحظه اليوم هو اكتساح هذه الصور للمؤسسات تلك، لا بل ازدياد الطلب عليها لعرضها وبثها كما هي ومن دون حتّى تصحيحات أو تعديلات، وحتّى اعتمادها في الكثير من الأحيان كمادة رئيسة لبرامجها. ولكن هل سيكون بإمكان السلطة بمؤسساتها تلك الاستحواذ على تلك الصور وبالتالي مصادرتها مستقبلاً لصالح خطابها الأيديولوجي؟
لا يحتاج مؤيّد الثورات العربيّة، والمتحمّس لها، إلى تبرير وإلى ذرائع. فنظاما مصر وتونس اللذان سقطا، وأنظمة ليبيا واليمن وسوريّا التي تسقط، ونظام البحرين الذي وقى نفسه السقوط بقوّة التدخّل الخارجيّ...، إنّما تحضّ على السؤال عن سبب تأخّر الثورات لا عن حصولها.
ذاك أنّ هذه الأنظمة جميعاً تشترك في سمات تستدعي موتها المعجّل، سماتٍ ليس يمكن التوفيق بينها وبين أدنى حقوق الانسان، ولا بينها وبين أبسط شروط المعاصرة لعصرنا. وقد تولّى القمع الذي اعتمدته في لحظات عسرها، بعد النهب الموسّع الذي اعتمدته في سنوات يُسرها، تبيان حجم الاحتقار والكراهيّة اللذين تكنّهما لشعوبها. فليست الوطنيّة الجامعة التي تدعو تلك الأنظمة إليها، وتتّكئ عليها، سوى رابطة تربط العبيد بأسيادهم. فمتى قرّر العبد رفض عبوديّته، كشف السيّد كم أنّ ولاءه للوطن كاذب وشراكته فيه مزعومة.
أُلغيتْ مواعيدُهم، ويذهبون في الوقتِ
يتناوبون الصمتَ كأنَّهُ من لوازمِ الحضور.
مكشوفةٌ تمتماتُهم، لا رجعةَ فيها
ليست عن الوَحشةِ
قِلَّةِ الأرضِ، أو كثرةِ الحواجزِ
بل عن المواسمِ التي لا ترجعُ في كلامِها.
مساء الخميس 10 فبراير غادرت بيتي مسرعة للّحاق بما ظننته احتفالات بتنحي مبارك. كنت قد قضيت النهار بكامله في ميدان التحرير، وفي حوالى الخامسة مساءً عدت إلى بيتي، لكن عندما تتالت أخبار وتكهنات عن أن مبارك سوف يعلن تنحيه عن السلطة في خطابه الذي سوف يلقيه بعد قليل، قررت الرجوع إلى الميدان للاحتفال مع المحتفلين هناك لأن المكان أصبح أيقونة ورمزاً للثورة رغم أنها تعدّته لتنتشر في كل أنحاء مصر.
الجزء الاول – الفصل الاول – الملحق 18: لوحات 22-152
خلّفت الحروب اللبنانية التي دارت في العقود الثلاثة الاخيرة آثاراً مادية ومعنوية على سكان لبنان: من المئة ألف قتيل أو أكثر، إلى المئتي الف جريح او أكثر، إلى المليون مهجر أو اكثر، لا بل إلى من هم أكثر ممن تعرضوا لرضّات نفسية... غني عن القول إن الحروب تركت أثرها ايضاً على المدن والمباني والمؤسسات اللبنانية.
عندما تتخطى العتبة، وتترك باب المنزل وراءك، لن تنجو من لقاء أفراد كثيرين. البعض لا يهاب ذلك. حتى أنا، لا مشكلة لديّ إذا كان جلدي محصّناً، إذا كانت مسامُّه كلها متضامّةً وقادرةً على التصدّي. أمّا إذا كان يومها مثقوباً أو ملتهباً بفعل كلمةٍ وجَّهها إليّ أحدُهم، أو بسبب شِجارٍ مع أمّي، أصبح الخروجُ من المنزلِ عقاباً لي.
لبنى مثقفة إسلامية تجاوزت الستين من العمر. تظهر كثيرا على الشاشة الصغيرة، وتكتب في الصحافة اليومية. نجمة اسلامية، داعية حثيثة الى الحجاب، وحجابها مثبّت وجدي. ولكنه حجاب مبتَكر دائما، في شكله ووفرة قماشه وألوانه؛ مبتكر وفريد، نعرف من بعيد انه لها، وليس لغيرها. خلفه فردية قوية: لبنى لا غيرها، وإحساسها غير الخفي بالتميّز عن الأخريات من بين النساء. حضورها صاخب وصوتها جهوري. وألفاظها، رغم اسلاميتها الصريحة، مستمدّة من قاموس انتمائها السياسي السابق، "العالمثالثي، الماركسي"، كما تقول.
النقاب ينتشر في القاهرة بأسرع مما انتشر الحجاب. الأخير احتاج الى عقدين وبضع سنوات ليأخذ طريقه الى الغالبية العظمى من المصريات. النقاب يعمّ الآن، وبوتيرة متسارعة. كل يوم تخرج الى الشارع، أو الى أي من هذه الأمكنة التي يلتقي بها الناس، تجد منقّبة اضافية، ربة عائلة، أو بمفردها، أو مجموعة منقبات في المترو أو السينما أو الفندق أوالمطار أو الجامعة أو "المولات"، أوالمنتجعات السياحية على الشواطىء، حيث يسبحن بكامل النقاب في البحر، ويخرجن الى شواطئه محمّلات بأثقال نقابهن المبلّل بمياهه... أو فوق دراجة نارية خلف الزوج، تتشبّثن بطفل او اثنين. أيضاً في الأحياء الفقيرة والراقية، بالخط البياني نفسه الذي سلكه الحجاب: من الأفقر الى الأغنى من بين الطبقات. وتجد هذا الخيط مجازاً في بعض الأمهات المنقّبات بصحبة بناتهن اللواتي لم يبلغن بعد السن "الشرعي" لارتداء الحجاب. بنات دون السادسة، وأحيانا بنات رضيعات، يرتدين الحجاب برفقة امهاتهن المنقبات؛ للقول ربما بأن هذا الحجاب هو إعداد للنقاب، خطوة نحوه، فور بلوغ السن "الشرعي".
تُعتبر تجربة صالح سرية أحد المؤشرات المبكرة جداً إلى قابلية الشتات لنقل الضائقة الفلسطينية الى ما يتعداها من معانٍ وأفعال، وذلك عبر نفيها بصفتها ضائقة وطنية ثم الإمعان في هذا النفي الى حد تجاوزها وتهميشها في سياق استبدالها بضائقة "أممية" يشكل الإسلام جوهرها. ففي مراجعة سريعة لـ"رسالة الإيمان" التي كتبها صالح سرية والتي تعتبر مانيفستو الجماعة التي تزعمها في مصر، تبدو فلسطين هامشاً ضيقاً وتكاد لا تذكر في سياق السعي للانقلاب على الأنظمة "الكافرة" وتحديد وجهات عمل المسلم في الدول التي لا تعتبر الإسلام دستور عملها وفيصل أحكامها.