مثلها مثل الأبحاث أو الروايات، حارت السينما في أمر الفاشيّة وأمر مُلحقها المحرقة اليهوديّة. وأغلب الظنّ أنّ الإكثار من الأفلام التي تناولت هذه العناوين كانت، هي الأخرى، محاولات للسيطرة عليها والتمكّن من حلّ «ألغازها». وهو أمر سوف يستمرّ، على الأرجح، إلى زمن قد يصعب توقّعه.
ذاك أنّ الفاشيّة لم تشكّل مجرّد صدمة عاديّة للتنوير والحداثة الأوروبيّين، بل جاءت صدمتها مطلقة تحمل على التشكيك بالمعاني كما بالمواقف والسلوك، الفرديّ منه والجماعيّ، ممّا ظُنّ أنّه غدا واحدة من المسلّمات «المتمدّنة». فهي صادمت العقل والنزعة الإنسانيّة والتصرّف اليوميّ السويّ معاً، إلى حدّ جعل منها منظومة ضدّيّة شاملة. ومعها أصيبت النرجسيّة الأوروبيّة بجرح عميق: فهي لم تعجز فحسب عن قتل «الوحش» المقيم فيها، بل كادت تعجز عن منعه من قتلها هي نفسها. ووسط شعور عميق بالذنب، حملت الفاشيّة أوروبا على إعادة الاعتبار للميثولوجيّ والبدائيّ اللذين كاد المتحف يبتلعهما، فظهرا في العلوم الاجتماعيّة كما في الفنون رسماً ونحتاً. هكذا تبيّن لـ «المتمدّنين» أنّ التمدّن معتلّ والحضارة معسورة، كما كتب فرويد مستبقاً في أواخر العشرينات، وهو معتلّ لا بذاته وتاريخه بالضرورة، بل بما قبل هذين الذات والتاريخ.