في المبدأ، تبدو السياسة قرينةً للانحياز. وذاك أن العملَ السياسي يجد نفْسَه، حالما يتفكّر في ماهيته وشروط أمانته لها، طرفاً في منازعةٍ أو منازعات. ويقتضي الاستواءُ طرفاً في نزاع أن يسعى من يرى لنفسه هذا الموقع إلى التأثير في وجهة النزاع متوخّياً إتاحة الغلَبة للصفّ الذي اتّخذ لنفسه موقعاً فيه. فإذا كانت موازين النزاع لا تبيح الأملَ في الغلبة، كان توجيه السعي إلى تحقيق المتاح، في كلّ مرحلة من مراحل النزاع، ممّا فيه صالِحُ الصفّ الذي اعتمده الطرف المعنيّ صفّاً له أو صالِحُ القضية التي شاءها قضية له في هذا النزاع. في كلّ حال، لا يستغني من يتّخذ لنفسه صفة الفاعل في ساحة من ساحات السياسة عن التصميم على تَرْكِ أثرٍ يتعمّده ويقدّر طبيعتَه في موازين الصراع الذي يخوض...
إذاً، صار اسمي ”الشهيد عمر قدور“، هذا ما كنت أسمعه من مصوّر الجنازة الذي يشرح للمشاهدين ما سيرونه على شاشات التلفزيون أو بواسطة اليوتيوب. لفّوني بغطاء أبيض مرقّط بالأسود، وأخذوا لي لقطة تذكارية وأنا مسجّى على خلفية سوداء؛ حينها أيضاً سمعت المصوّر يشرح لأولئك الناس الغامضين من أكون. أقول إنهم أناس غامضون لأن الأهالي هنا يعرفونني، وليسوا بحاجة لتذكيرهم كل دقيقة، ثم إنني لا أدري لماذا ستنشر التسجيلات مقطّعة على دقائق أو أجزاء منها، تستدعي التعريف بي كل مرة!
سحبونا من سيارتنا ورمونا بصندوق سيارة ستايشن وقَلَّعوا بسرعة جنونية. كان مستحيل نعرف لوين سايقين فينا. شوي بيقول الرفيق أوليغ ”يبدو إنّو وظيفتنا بلبنان انتهت“. قلتلو “خلّينا نتمنا إنو اللي انتهى هوي وظيفتنا وما شي تاني”. بعد ما قلت هالجملة، حلّ الصمت بيناتنا، ولفترة طويلة ما حدا منّا نطق بحرف.
قادر عطية: هل تذكرين متى تقابلنا لأول مرة؟
هيلين هازيرا: أذكر مكالمة هاتفية في مكتب الجريدة حيث كنت أستعرض تميزي الهامشي: ”أود أن أريك عملي عن الجزائريين المتحولين جنسيا في بولفار ناي (Boulevard Ney)“. كنت أعرف أن المتحولين جنسيا دفعوا ثمنا باهظا أثناء الحرب الأهلية الجزائرية. صوتي الدافىء والحازم على الهاتف كان معبرا عن تأنيب ضميري. نعم، أستطيع أن أتذكر شقتك الصغيرة غير البعيدة عن البار؛ بار ”الزوربا“ (في ذلك الوقت كان مقر اتحاد العمل الوطني) في بيلفيل. نعم، بإمكاني تذكر الصفعة الكبيرة على الوجه التي أعادتني إلى ماضيّ كعاهرة ترانس[1]. نعم، أتذكر جمال تلك الصور عن المنفى القسري كصورة الصينية الصغيرة مع كوب الشاي، والكعكة، التي تعيد إحياء ثقافة كاملة. صور المتحولات جنسيا حيث يحملن الشموع ويرتدين ملابس تقليدية ليحتفلن بعيد ميلاد صديقة ما، أكدت لي حدسي: نحن حراس التقاليد. الاهتمام الذي أظهره قادر ببنات ”البلاد“، بفتيات الريف (في مقابل فتيات المدينة اللواتي يتأقلمن بشكل افضل مع المدن الكبرى) يتقاطع مع انشغالي بمسألة نسيان الثقافات الزراعية في فرنسا.
[1] متحول جنسياً
لا أعرف كيف اهتدى أبي إلى مدرسة الراعي الصالح ليجعلنا من تلاميذها أنا وثلاثة من أخوتي. كانت بعيدة عن بيتنا إلى حدّ أنّه كان علينا أن نكون جاهزين لوصول الباص، نحن الأربعة، واقفين على رصيف الشارع تحتنا، إبتداء من السادسة إلّا ربعا. ورغم ذلك ليس البعد الجغرافيّ وحده ما أقصده، بل وقوع المدرسة في شارع، بل في منطقة، لا نعرف عنها شيئا ولا صلة لنا بأحد من ساكنيها. ثمّ أنّها لم تكن على شارع عام، عريض، لأقول إنّ أبي شاهدها في أثناء مروره فأعجبته. فهو، في أغلب الظنّ، لم يمرّ أبدا في ذلك الشارع الضيّق المتفرّع بدوره من شارع ضيّق آخر.
بات شائعا القول إن الكرد، الذين يشكلون رابع أكبر قومية في الشرق الأوسط، هم أكثر المستفيدين من تبعات ”الربيع العربي“، حتى إن البعض اعتبر ان هذا ”الربيع“ يستحق صفة ”الكردي“ نظرا لأن منافعه حصدها الكرد فيما تلقى العرب مساوئه. وتأكيدا لذلك تسابق كتاب وخبراء وباحثون على تأكيد ذلك عبر دراسات ومقالات وأوراق للنشر والنقاش في مؤتمرات وندوات مكرسة للموضوع. الكرد من جهتهم انتهزوا الفرصة لتسويق قضيتهم مركزين على الجوانب الانسانية والايجابية فيها ومراهنين على فاعليتهم وقدرتهم على احتلال موقعهم تحت الشمس الى جانب الامم الأخرى. هذا الموقع الذي كان يفترض أن يحصلوا عليه منذ عقود لولا أنهم جُعلوا كبش فداء على مذبح الجيوبوليتيك، فخذلتهم المصالح الدولية والإقليمية التي اقتضت تجزئة وطنهم وتوزيع اشلائه على الدول المحيطة به.
نعيش في أزمنة مجزأة. تقسيم المناطق والتواريخ المشتركة باسم ضرورات عرقية متخيلة - وما من شيء أكثر واقعية من آثار المتخيل - كان من أكثر التجارب الصادمة و النموذجية [الباراديمية] في القرن الماضي؛ وهو تقسيم واسع الانتشار، بالفعل، الى الحد الذي يبدو فيه ان التعبير الاصلح له هو الذي جادل به الفيلسوف الهندي راتابير سامادار في عبارة "الأزمنة المجزأة" مقابل التعبير الاكثر انتشارا "الازمنة ما بعد الاستعمارية".
الحاج حسين الطحّان أحبّ صوت أم كلثوم في ذات ليلة من سنة 1935. أتاه صوتها من الراديو، «لذيذاً»، فعشقه كما يحدث لمن يأتيه العشق من النظرة الأولى. قبل ذلك لم يكن يحبّ الرقص، ولا الغناء الجديد. يحبّ فقط «الموسيقى القديمة من أيّام أجدادنا»،هكذا بما يذكرّنا بأنّ أهل ذلك الزمان كانوا يقفون مثلنا على ذلك المفترق بين ماضيهم الذي يعرفونه وحاضرهم الذي لا يفهمونه. كما يعلمنا بأنّ هناك طرازاً من الغناء قديماً سبق وجوده ما نصنّفه نحن بالغناء القديم.
ماذا أفعل إذا سَقَطتُ منْ سريري
ولم أَجدْ الأرضَ
أعلمُ أنّنى سأحاولُ
أنْ أتذكّرَ حبيبتي في ثوبِها الليليّ
من أجل أنْ أتحمَّلَ هبوطي إلى أسفل
لكنَّ الحزنَ الغالبَ
على عرقي
وضعفِ حيلتي
سيكونُ بسببِ الأشعارِ التي لم أكتْبها
عنها
قالت ندى إنّ ما أكتبه اختلف منذ أن أصبحت أستخدم الكومبيوتر. ربّما كان هذا صحيحا، بل أفكّر أنّه لا بدّ أن يكون صحيحا. أنا نفسي كنت أقول بأنّي، إن كتبت بقلم ثخين الخطّ، وإنْ ثخانة قليلة، سأقضي وقت جلوسي منشغلا بشطب كلّ جملة أكتبها. وقد قلت كلاما كثيرا في محاججتي لأولئك الذين بدأوا بتشجيعي على استخدام الكومبيوتر، ثم بقولهم لي، راسمين على وجوهم هيئة العجب: أما زلت حقّا تكتب بالقلم والورقة؟
ثارت أحداث «الربيع العربيّ» جملة من التعليقات والتفاسير في الخطابات العامّة التي تخدم في تلخيص المقاربات النظريّة والايديولوجيّة للسياسات الشرق الأوسطيّة في الإعلام الغربيّ وفي الأكاديميا.
خرجت من سورية، ولا فخر، كلمة الشبيحة إلى العالم ولغاته، بينما كان المسمى يخرج إلى «الشارع» السوري كالجنّي، يروع ويقتل، ويكره ويقذع في البذاءة. «يُشبّح». ودخلت اللغة العربية ذاتها كلمة لم تكن معروفة خارج سورية، بل لم تكن معروفة في سورية نفسها على نطاق واسع. ولم تلبث أن أدرجت في عائلة من الكلمات النسيبة: شبّح، يشبّح، تشبيحا؛ وأن جُعلت علماً على الموالين للنظام، يقابلها «المندسون» التي استصلحها المعارضون الشباب عنوانا جامعا لهم؛ وأن أدخِلت في سياقات جديدة: شبيحة القلم (رنا قباني)، شبيحة المعارضة، شبيح الفلاسفة، وهذا لقب سوري لبرنار هنري ليفي.
قبل أن يهدأ العصف الذي يخضّ غير بلد عربيّ، وترسو الانتفاضتان المصريّة والسوريّة على حال، سيكون من الصعب وصف المحطّة الراهنة التي ابتدأ السير إليها في أواخر أيّام 2010. لكنّ جردة سريعة للتطوّرات تسمح بالقول إنّ هذا العالم العربيّ سوف يتكشّف عن عالم جديد مختلف كلّ الاختلاف عمّا عشنا وعرفنا. أمّا الذهاب أبعد في وصف ماهيّة الجدّة والاختلاف هذين، تبعاً للأشكال والنُظم السياسيّة، وللعلاقة بين قطاعات السكّان وفئاتهم، فيمنعه التباس وتداخل لا يزالان الملمح المشترك الأبرز بين التجارب المعنيّة، وإن تفاوتت الأسباب التفصيليّة لذلك بين بلد وآخر.
كان ذلك في بداية التسعينات، أحدق في البحر من نافذة السيارة، وأبي يقود في طريق عودتنا من بيروت إلى بيتنا في النبطية، حينما طلب إلينا فجأة أن نلتزم مقاعدنا، و«نقعد عاقلين»، أخي وأنا في الخلف، حتى نعبر الحاجز. كنا قد وصلنا إلى حاجز الأولي، حيث يتمركز عناصر الاستخبارات السورية بثيابهم المدنية وبنادقهم التي يحملونها، بلا اكتراث، بيد واحدة، كما لو أنها خشبة أو مكنسة يلوّحون بها.
تتطلّب مراجعة الأبحاث قراءة ناشطة؛ إذ يتعيّن على المراجِع/القارئ التصارع مع مقدّمات تمهيدية وأن يتحلّى بالصبر على متابعة الباحث في سعيه لمناقشة الأفكار ومقارعة البديهيات وإنشاء الأدوات وتوفير المعلومات وتسويغ التأويلات إلخ. من مُستلزمات إنتاج المعرفة القائمة على البحث. وهي تفترض الالتفات المتزامن إلى أكثر من ناحية من النصّ المُراجَع ومن مكوّناته، وبذلَ جهدٍ في استعراض مسار البحث ليواكب الجهد الذي بذله الباحث في إعداد بحثه.
مئات الصفحات كي يقول العشبةُ ماتت
كي يقول القمرُ نام،
مئات الصفحات كي يقول خُذِ الشمعة
إنها في الزاوية هناك، مطفأة
أشعِلْها بأنفاسك إنْ شئتَ أو أَبقِها مطفأة وإنْ شئت
ارْمِها،
ليس ما يهدد الذات والكيان والهوية كالآخر المثيل، كالآخر غير الناجز الغيْريّة، أو الملتبس الغيرية، أو ذلك الذي لا تكون غيريته تحصيل حاصل، بديهية من تلقائها، بل يجب ابتعاثها وبناؤها، لبنةً أولى في بناء الذات أصلا، إذ أنها أساس وجود هذه الأخيرة أو شرطه الشارط. كل خلق إنما هو فعل تمييز أو تمايز، يصح ذلك على كل شيء، وعلى إيجاد الذات واجتراحها في المقام الأول. فالتماثل، إذ يطمس الحدود، أيا كانت طبيعتها، ويفسّخها، إنما يجعل خطر الاندثار والفناء محدقا وشيكا. التماثل سديم، والمغايرة كون (كوسموس): ذاك اختلاط فَتَلاشٍ وتحلّلٌ، وهذا تمييز، فتحديدٌ للأشياء وتكوين لها.[1]
أعادت الثورة المصرية الاعتبار إلى مفهوم الشعب. وكانت ثورة تونس قد فعلت قبيلها الشيء نفسه. وانتشرت بوادر من القبيل نفسه من الجزائر إلى اليمن إلى الأردن فإلى العراق... وراحت دمشق تسأل نفسها عن مآل الصمت المخيم عليها. وانفجرت جزيرة العرب والهلال الخصيب ضاحكين وهما يتلقيان موجة «المكرمات» من ملكية وأميرية ورئاسية، وقد أطلقها الرعب المنبعث من وقائع الأيام العظيمة في ميدان التحرير وفي غيره من ساحات مصر. وفي إيران نفسها، كانت ثورة مصر مناسبة لنوع من عودة الروح إلى الثورة الخضراء المقموعة.
مجموعة صور من ميدان التحرير
هناك تلك القصّة عن الـ trompe l’oeil [الترومبلوي] في اليونان القديمة، التي سردها بليني الشيخ في عمله Naturalis Historia [التاريخ الطبيعيّ].
زيوكسيس وبارّهاسيوس انطلقا، ذات مرّة، في سباق يتقرّر بموجبه مَن من الاثنين الفنّان الأكبر. فحين كشف زيوكسيس رسمته، ظهر العنب شهوانيّاً إلى الحدّ الذي جعل الطيور تهبط لتتجمّع حوله. بعد ذاك سأل بارّهاسيوس أن ينزع الستارة عن رسمته، بحيث تكشّف أن الستارة نفسها رسمة، ثمّ قال: "لقد خدعت الطيور، أمّا بارّهاسيوس فخدع زيوكسيس".
لم أعد أتعرَّف في كفروة على القرية التي جاء منها أهلي وشاطرتني بعض طفولتي والكثير من أحلامي. القرية تلك كنا نصل اليها بعد ان نقهر الحصى والالتواءات والحفر عبر طريق متفرع من الخط العام بين الزهراني والنبطية، وكان احد ملتزمي تنفيذ ذاك الخط أنيس حاوي، صديق والدي ووالد الرفيق جورج الذي سأتعرف اليه لاحقا. ليس لأنها تغيرّت واجتاحتها حداثة البناء والباطون وحسب. ولا لأن طابعها الزراعي والفلاَّحي صار ذكرى دارسة كما يجري في أرياف كثيرة، بل لأنه ساد فيها أيضاً، وهي القرية الصغيرة التي لا بلدية خاصة لها، نصاب الامر الواقع بحيث سيطرت القوة وتجلياتها في أحوال اقتصادها ومعاملاتها ونظرة أهاليها والجوار.
الفصل الأول
الصورة الأولى
صف ع جنب. طفّي السيّارة. نزال ع الأرض. اعطيني الكاميرا.
هويتك. وراق السيّارة. رخصة السواقه.
افتاح الصندوق. التابلو. اعطيني الكاميرا.
وين ساكن؟ من وين بالأصل؟ شو بتشتغل؟ وين بتشتغل؟
صحافي؟ مسرحي؟ ممثل؟ وين بتمثل؟
النقاب ينتشر في القاهرة بأسرع مما انتشر الحجاب. الأخير احتاج الى عقدين وبضع سنوات ليأخذ طريقه الى الغالبية العظمى من المصريات. النقاب يعمّ الآن، وبوتيرة متسارعة. كل يوم تخرج الى الشارع، أو الى أي من هذه الأمكنة التي يلتقي بها الناس، تجد منقّبة اضافية، ربة عائلة، أو بمفردها، أو مجموعة منقبات في المترو أو السينما أو الفندق أوالمطار أو الجامعة أو "المولات"، أوالمنتجعات السياحية على الشواطىء، حيث يسبحن بكامل النقاب في البحر، ويخرجن الى شواطئه محمّلات بأثقال نقابهن المبلّل بمياهه... أو فوق دراجة نارية خلف الزوج، تتشبّثن بطفل او اثنين. أيضاً في الأحياء الفقيرة والراقية، بالخط البياني نفسه الذي سلكه الحجاب: من الأفقر الى الأغنى من بين الطبقات. وتجد هذا الخيط مجازاً في بعض الأمهات المنقّبات بصحبة بناتهن اللواتي لم يبلغن بعد السن "الشرعي" لارتداء الحجاب. بنات دون السادسة، وأحيانا بنات رضيعات، يرتدين الحجاب برفقة امهاتهن المنقبات؛ للقول ربما بأن هذا الحجاب هو إعداد للنقاب، خطوة نحوه، فور بلوغ السن "الشرعي".