وسط هذا الدمار الرهيب، يافطة نظيفة بيضاء عُلّقت على الجزء المُتبقي من الجدار المتكسّر. تقع اليافطة تماماً في وسط الصورة. خُطّ على قماشتها بالأحرف العربية التالي: «انتقل محل فاعور للألبسة إلى الرويس مقابل محفوظ ستورز». أُخذت هذه الصورة بعد انتهاء الحرب التي شنّتها الحكومة الإسرائيلية على لبنان في تمّوز 2006. نرى فيها بعض المباني الواقعة في الضاحية الجنوبية لبيروت والمتاخمة للمربع الأمنيّ التابع لحزب الله مدمرةً بشكل كليّ. لا تُظهر الصورة سوى هذا الركام الذي فوقه ركام، والأحجار التي فوقها أحجار؛ واليافطة في الوسط.
إذاً، في هذه المنطقة المنكوبة كان محل فاعور. الكارثة تسببت بانتقاله إلى منطقة أخرى - «الرويس» - قرب محل محفوظ. كلمة «محل» التابعة لمحفوظ قد كُتبت بالإنكليزية إنما بأحرف عربية، على خلاف كلمة «محل» التابعة لفاعور والتي كُتبت بالعربية الصرفة. ولا بد أنّ لهذا الاختلاف اللغوي سبباً قد يعود لأقدمية إقامة محفوظ في منطقة الرويس وترسخه فيها، ما أعطاه سلطة ما للعب اللغوي والتلهي بذلك، إلى حد إدخال كلمات أعجمية على قاموس المنطقة من دون اتهامه بعمالة ما أو هرطقة.
بين الركام بعض بقايا من أغراضٍ منزلية متناثرة هنا وهناك، بين الأحجار، تحتها وفوقها. منها ما هو ظاهر ومنها ما هو مطمور تحت التراب: قطعة من سطل بلاستيكي أزرق، غالون أصفر صغير مخصص للزيت النباتي مثقوب في أسفله، فرشة اسفنجية مسودّة، نباريش زرقاء للتمديدات الكهربائية مندلقة من بطن الجدار الباطوني المهدم، حرفا «س» و «ر» بالأحمر مصنوعان من البلاستيك، لا بد أنهما كانا في علبة الأحرف المخصصة لِلُعَب الأطفال، أسلاك حديدية للبناء مع بعض كُتل من الباطون، أكياس نايلون حمراء وسوداء، أوراق من كتب ودفاتر، أشلاء أقمشة زرقاء وبيضاء متناثرة، وغيرها...
لا شيء في هذه الصورة يدلّنا كيف كان شكل تلك المباني المدمرة. ليس هناك من أثر يفيدنا أنّ ثَمّة محالّ تجارية كانت قائمة قبل حدوث الكارثة. من هنا تأتي أهمية ما تعلنه هذه اليافطة من أنه كان في هذا الحيّ محالّ وأرزاق وزبائن و بضاعة يُعتاش منها. وانتقال محل فاعور إلى الرويس ليس إلاّ خبراً عن نجاته. فخبر الانتقال هو إعلانٌ لاستئناف الحياة بعد التعرض لأمرٍ أو لحادث ما. انتقال محل فاعور تصريحٌ بأن الحياة لم تعد تصلح هنا، وأن الحياة ربما «في مكانٍ آخر». تدعونا اليافطة للوقوف والتأمل في هذا المشهد والتفكّر فيه. وكأنها، عن عمد، تجبرنا على الإشاحة بنظرنا بعيداً عن منظر الدمار المفجع. تمدّنا ببضع دقائق للابتسام وللثرثرة وربما للهو... تضعنا لبضع دقائق أمام حزننا العاديّ... بضع دقائق لنستذكر الفشل الذي مُنينا به أو الفرح الذي، هو الآخر، رحل عن هذا المكان.
تحجب اليافطة جزءاً صغيراً من هذا الدمار الكبير. ماذا لو أنّ كل المقيمين السابقين في هذه المنطقة المنكوبة وكل من كان لديه فيها محل، قد وضع يافطة صغيرة كالتي وضعها صاحب محل فاعور يعلن فيها عن انتقاله إلى مكان آخر؟
أتخيّل المشهد وأرى مئات من اليافطات قد صُفّت إلى جانب بعضها البعض بحيث لم يبق أيّ أثرٍ ظاهرٍ لهذا الدمار الكبير. يافطات تحجب المنظر، لكنها لا تلغية. بل على العكس، لأنه غياب يؤكد الحضور. فالدمار غير مرئي، تغطيه أسماء الذين كانوا هنا قبل حدوث الكارثة. إنه يلغي عمق المشهد بأبعاده الثلاثة مقابل مسطّح ذي بُعدين. يافطات قد تلغي ميلودرامية المشهد والفجيعة المتمثلة بعمق الدمار مقابل مسطّح يحفظ عمق المأساة ومعناها، لأن اليافطات بما ستعلنه سوف يبدو هادئاً، من دون غضب أو حتى أدنى انفعال؛ إلاّ أن في معانيه عنفا ملتهبا.
ظنّي أن عنف إعلانات الانتقال الجماعي هذا لأقوى وأبلغ من منظر الدمار نفسه. ففكرة الانتقال قسراً من مكانٍ إلى مكانٍ آخر، تفترض أن انقطاعاً عنيفاً قد حصل: كالانسان عند المنيّة، ينتقل من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة. وبهذا، فإن كل يافطة ستكون بمثابة إعلان عن اختفاء حياة. وهكـذا يتحوّل الدمار إلى أطلال، وبالتالي يصبح بإمكاننا أن نميز طللاً من آخر فنعرف أن هذا الطلل يعود إلى صاحبه فلان الفلاني وذاك الطلل إلى فلان الفلاني. نعلم أن هذه الأطلال لها أصحاب وتخفي في طيّاتها حيواتٍ كانت يوماً تضجّ بأسماء وضحكات وأحاديث وتواريخ وأسرار صغيرة. الركام والدمار كالمقابر جماعية، أمّا اليافطات في حال نُصبت فستكون كشواهد القبور، وبالتالي تحوّل هذه المقابر الجماعية إلى مدافن وقبور لها أصحابها. لهذا كان من الممكن أيضاً أن تأتي يافطة فاعور على الشكل التالي: «انتقل محل فاعور إلى رحمته تعالى، جانب محفوظ ستورز»، لأنه انتقال تام ولا عودة عنه. تماماً كانتقال الميت إلى رحمة الله تعالى.
وكأن اليافطة هذه تدعونا مواربةً للبكاء على الأطلال. تطلب منا الوقوف للحظة واحدة والبكاء «من ذكرى حبيبٍ و منزلِ». وكأنها تحية للشعر. يافطة، وعلى عكس ما قد توحيه الصورة، لا تزدري الدمار؛ بل تخافه. لا تزدري الموت؛ بل تخشاه. إنها هسهسة الشعر وتواضعه أمام الانتصار الكبير لصورة الدمار هذا.
أغمضُ عينيّ نصف إغماضةٍ وأنظر إلى الصورة، فأراها مصبوغةً بلون الحجر الرملي. تبدو كصورة قديمة اصفرّت جرّاء مرور الزمن (صورة سيبيا). ثمّ أفتحهما على وسعيهما وأنظر إليها من جديد، فأرى اللون نفسه لا يزال غالباً عليها، ولكنْ تتفشّى فيه نقاط صغيرة، كثيرة، ذات لونين أزرق وأحمر. وكأنّي أرى بالنقاط الزرقاء والحمراء المبعثرة في أرجاء الأطلال تلك حطام أحرفٍ مهشّمة. أحرف تكسّرت ولم تعد تصلح للاستعمال؛ إذ ليس بمقدورنا حتّى تهجئتها. وليست هذه الجملة المخطوطة على اليافطة باللونين المذكورين، إلّا دليلنا إلى أنّ كل تلك النقاط المبعثرة هنا وهناك هي أجزاء من لغتنا المدمرة وكلماتنا المهشمة وأحرفنا المفتّتة، المجبولة والممزوجة والمختلطة بهذا الركام من ردم وحطام وأشلاء. أتخيل صاحب هذه اليافطة يلملم من دمار اللغة هذا بعض أحرف نجت، يجمعها في جملة تُعلمنا بانتقال محله من جحيم اللغة إلى مكان آخر ربما أقل تضرراً؛ يجمعها لينظم بيتاً من الشعر الحديث عن حرب مروعة؛ قصيدة نثر يقول فيها الشاعر: «انتقل محل فاعور للألبسة إلى الرويس مقابل محفوظ ستورز».
* نشر هذا النص في مجلة Prefix Photo الكندية - تورونتو، عدد 21 ، سنة 2010.