تعمل هذه المقالة على تمييز ثلاث شخصيات لنبي الإسلام، وتتتبع تطورها غير المتساوي ومصائرها التاريخية المتفاوتة.
تحيل أولى الشخصيات إلى الله الذي يمثل القرآن قوله، والثانية إلى الرسول البشري المنخرط في حياة جماعته، الذي يمثل "الحديث" قوله، والثالثة إلى القائد أو الزعيم السياسي الذي بنى "أمة" وأسس "دولة". ونستخدم تعبير "شخصيات" وليس وجوهاً أو أبعاداً، من باب إبرازها والتأكيد عليها. لكنها تبقى تمييزات تحليلية في ما يفترض أنه كيان واحد، وليست "أقانيم".
وبينما ورث السياسيون، من "الخلفاء الراشدين" إلى "المؤلفة قلوبهم" من "أشراف مكة" وسادة قريش الوجه الأخير؛ يستثمر الوجه الثاني الذي تأسس عليه الإسلام/ الأمة "العلماء"، والفقهاء أكثر من غيرهم؛ فيما لم يكد يشتغل على الوجه الأول، الإلهي أو القرآني، الذي تأسس عليه الإسلام/ الدين غير "متكلمين" بالأمس، وقلة من مثقفي اليوم غير الإسلاميين، يصح اعتبارهم "أبناء محمد" أو ورثته.
الإسلام في صورته المتداخلة اليوم تركيب بين أمة "العلماء" المتكونة حول "الشريعة"، واستحضار دولة "المؤلفة قلوبهم"، ورسالة محمد بن عبد الله القرآنية التي تتمثل فيها الأساسيات المعيارية للإسلام كدين.
إن غرض هذه المقاربة الأولية التي تنطلق من الشخصية المركزية في الإسلام هو المساهمة في عقلنة المعطى الإسلامي وتوسيع دائرة ما يمكن التفكير فيه بشأنه.
1
حاول المعتزلة عقلنة المعطى الإسلامي بالإلحاح على وحدانية الله وتعاليه، وعلى خلق القرآن، أي عبر صنع ازدواج داخل الشخصية الأولى لمؤسس الإسلام. الله واحد ومتعال إلى ما لا نهاية، لكن القرآن "خُلِق" في حياة النبي محمد. كان ذلك يُبعِد الله عن الأمة أو ينزع ملكية الأمة لله، فيقلل من قداستها ويغمسها في الدنيا، فيؤسس لـ"علمنة" ممكنة للسياسة والدولة، كما لـ"أخلاق طبيعية" مستقلة عن الدين (التحسين والتقبيح العقليين)، ويُدرِج الدين في التاريخية عبر مذهب "خلق القرآن". وكذلك يفتح الإسلام ذاته على الكوني. أراد المعتزلة الفصل بين الكلام والمتكلم، ما يُسهِّل أمر تدبر الكلام (القرآن) وتحويله إلى "ثقافة"، مع جعل المتكلم مرجعية عليا تأسيسية، فوق سياسية وفوق ثقافية. الحصيلة تنزيه المتكلم وتتريخ الكلام. التنزيه والتتريخ يسيران معا. تعالي الله (بعد خلق القرآن) ضمان لاستقلال التاريخ والإنسان.
عمل الأشاعرة، بالعكس، على أسلمة الله عبر إنكار كون القرآن مخلوقا، وعلى تأسيس الأخلاقية على الدين واستتباعه لها. الله الأشعري أقرب من الإله المعتزلي، لكن القرآن قديم مثله. إن تفكيرهم يحمل بذور "شرك" مبكرة. فهم يضيّقون المسافة بين الله والأمة أو "الإسلام" إلى أقصى حد، أو يقيمون تعادلا بين "الإسلام" والله، ليكون الله رب المسلمين وناصرهم، ويكون دين المسلمين هو دين الله. التعالي الذي يفترض أنه يميز الإسلام يكاد يتلاشى هنا، والتاريخية تتعذر. هذا لأن الله متدخل بكثافة في أفعال الإنسان، يخلقها أولا بأول. التاريخ، تاليا، غير مستقل. والإنسان غير مستقل بدوره. وكذلك الأخلاق. ستكون مستتبعة للدين.
والعلمانية متعذرة كذلك. إذ "الإسلام" هنا هو التحام الله والأمة. طريق أسلمة الله يفضي إلى جعل الفصل بين الدين والدولة معادلا لتحطيم الأمة. فقهاء اليوم السنيون أوفياء لأصولهم الأشعرية حين يرفضون العلمانية. تأسيس العلمانية يقتضي، بالمقابل، إحياء الموقف المعتزلي.
أسلمة الله تقود أيضا إلى نزع كونية الإسلام. الله المسلم هو إله المسلمين.
نتكلم على المعتزلة والأشاعرة لأنه يتكثف فيهما موقفان هما الممكنان الأبرز من المعطى الإسلامي، علاقة الدين بالأمة بالخصوص.
***
لكن قد نميز بين تصورين لله في الإسلام عموما. تصوره كمصدر للقرآن، ينطق به محمد وقت تشكل الإسلام؛ وتصور لله بتوسط الإسلام، وقد تشكل واكتمل. الله لا يبقى هو نفسه حين كان ينطق بلسان النبي، وحين انقطع الوحي واكتمل الإسلام. مسار الإسلام (وكل دين مؤلِّه آخر) هو مسار التحول نحو التصور الثاني، أسلمة الله أو إعادة بناء هويته إسلاميا. وفق التصور الثاني لا يوجد الله خارج الدين. الإسلام هو مصدر الله بعد أن كان الله هو مصدر الإسلام. الأشاعرة يبدون أوفى لهذا المعنى من المعتزلة. إنهم إذ يستملكون الله أو يجعلونه مسلماً، يقتربون من تقرير فكرة أن الله هو محمد القرآني (تمييزا عن محمد الدولة، وعن محمد "السنة")، رغم أنها تعتبر الكفر الصريح في نظرهم. كان يهوه إله اليهود الذي اصطفاهم وجعلهم شعبه المختار، أما المسيح فهو الله ذاته. ونسب ماركس فكره إلى العلم، لكن الماركسيين لم يلبثوا أن جعلوا فكره معيارا للعلمية ولكل علم. المسلمون، دون أن يقصدوا، بل عبر قصد معاكس تماما لقصد الدينين الإبراهيميين الآخرين، "أسلموا" الله. الله والأمة متحالاّن.
لا بدعة إسلامية في ذلك. يتشكل الله بالوحي الذي ينزله، فيفقد استقلاله وتعاليه، أو حتى وجوده خارج هذا الوحي. ليس الله الكوني المتعالي الذي لا يشبه غير ذاته هو الذي أرسل ابنه يسوع ليفتدي البشر الخطاة، وإنما هو إله تشكل بابنه (وُلِده ابنه)، وصار مسيحيا. وما كان لله أن يرسل القرآن دون أن يتشكل بالقرآن، فيُنزل الوحي على محمد بن عبد الله. محمد رسول الله الذي لا دين عنده إلا الإسلام، الله المسلم. افتراض "موضوعية" الله، استقلاله عن الأديان والرسالات، شيء لا تطيقه الأديان والرسالات.
ويبدو أن هذه العملية أساسية في تشكل كل دين، بل لعله لا يسعنا التكلم على دين دونها. عرف العرب "الله" قبل الإسلام، وكانوا بشهادة القرآن يُقرون بأنه خالقهم ورب السموات والأرض. أي مبدأ كونيا مجردا. وفي مبتدأ الوحي كان الله هو هذا الإله الذي عرفه العرب، لكنه الآن واحد أحد لا شريك له من آلهتهم الأخرى. تطور الرسالة سار باتجاه استملاك إسلامي لله، يجعل من الإسلام دينه الصحيح، بل ويصحح إله اليهود والمسيحيين، ويدرج رسالاتهم في الإسلام، بعد أن يأخذ على أتباعها "تحريفها".
استملاك الله ليس خصوصية إسلامية، إنه جوهري في كل دين. ولعل الحاجة الدينية تصدر من هنا أصلا. من الحاجة إلى نسب إلهي، إلى أن نشغل مركز العالم، مفضَّلين على غيرنا. لا يكفي أن يجتبينا الله ويبلغنا رسالة من لدنه، بل يتعين أن يكون الله ذاته منا، مولانا ورئيسنا أو أبانا، نحن المسلمين أو المسيحيين أو اليهود. إنه معادلنا المثالي، الأمة مشخصة وممثلنة في الإسلام، ورئيس جميع المؤمنين المسيحيين مجسدا في الكنيسة في الكاثوليكية، ورب إسرائيل وقائد جنودها وعمود بيتها.
وإذ يصير الله مسلما تنقلب العلاقة بينه وبين النبي. يبدو الآن من أتباع رسوله. هذه المفارقة أيضا لا تخص الإسلام وحده، وإن تكن أوضح فيه من غيره لكونه دين التوحيد والتعالي التام. والحال لقد تطور الإسلام تاريخيا باتجاه صنع وسائط إسلامية بعد إقصاء الوسائط ما قبل الإسلامية (آلهة المشركين العرب)، أي إنتاج "شرك" إسلامي مناسب. السنة والفقه، الشريعة بعامة، فضلا عن نظام طقسي معقد. ويبدو أن الإسلام معرفا بواحدية الله المطلقة وتعاليه أو تنزهه التام محال. فإما أن يتم إيجاد إلهة وسيطة أدنى مرتبة؛ أو خفض مرتبة الله ذاته، أي تقريبه والحد من تعاليه، وما يتضمنه من احتمال جعله إلها دنيويا أو "قوميا". وبعبارة أخرى، إما أن تجري التضحية بالتوحيد أو بالتعالي، إما الشرك أو "التداني"، أو كليهما معا. يحتمل أن المعتزلة هزموا لأنهم لم يجدوا حلا لهذه المسألة. وفاز الأشاعرة، عبر تأليه الشريعة وعبر التداني الإلهي معا. لو كان الإسلام مطابقا فعلا لمفهومه المفترض لربما كان تلاشى منذ أمد بعيد. لقد بقي بالضبط بفضل "الشريعة" (و/ أو "الصوفية"). لكن تداني الله، بالمقابل، يعطل فاعلية الإنسان ويلغي حريته. هذه المعضلة إحدى محركات الإصلاح الإسلامي اليوم.
***
ليس انقلاب العلاقة بين الله والإسلام (الله من الإسلام) وليد خلل في الفهم بل هو ثمرة صواب في الكيان، أو حاجة الكيان إلى الصواب، صُبوُّہ إلى الرفعة والكمال والسلامة. كيان جماعة المؤمنين أو "الأمة". ليست اليهودية وحدها من يجعل اليهود "شعب الله المختار"، بل الأديان جميعا. "الاختيار" تعريف للدين. ندين كي نُختار، كي نكون مختارين. وبطريقتها تفعل ذلك العقائد الدنيوية. تعرف نفسها بالقيم العليا، فيكون أتباعها الأعلون. لا يتماسك دين أو عقيدة دون ذلك. ولا تقوم للدين أو للعقيدة هوية، أو لا يصير الدين "شخصا" متماثلا مع ذاته مختلفا تماما عن غيره دون هذه العملية. وإنما هنا أصل اقتران التعصب بالدين والعقائد عموما: نحن لسنا مثل غيرنا، نحن أفضل من غيرنا. هذا أيضا خصيصة عامة. وقد يكون إفراد الإسلام بها علامة تعصب أشد رسوخا.
ولعله يتعين التمييز هنا بين بعدين لعملية استملاك الله. بعد عمودي يخص تشكل الله بالوحي الذي يُبلّغه (نتذكر أن الله بعد لشخصية النبي)، وبعد أفقي يخص تنسيب الله إلى الأمة من وراء انتسابها إليه. الأول مزامن لدعوة الرسول، فيما الثاني من صنع "العلماء"، بمن فيهم المتصوفة.
***
إن الأشاعرة الذين قلصوا المسافة بين الأمة والله يبدون أقرب إلى توحيد الدين والأمة ومحمد الإلهي. أما المعتزلة الذين باعدوا بين الله والأمة، وخفضوا من مرتبة هذه، وأفسحوا مجالا واسعا للعقل الإنساني، فيبدون كأنهم يفصلون الإسلام والأمة عن محمد، أو يفصلون القرآن عن محمد الإلهي، فيرفعون هذا ويخفضون القرآن ويدرجونه في التاريخ.
ولعلنا نضع يدنا هنا على أحد أسباب هزيمة المعتزلة. فتفكيرهم يتعارض مع حاجة الأمة إلى تشريف أو تقديس نفسها، والاختصاص بالله، لتكون: أمة لا إله إلى الله، أو أمة الله، على ما يسمي المسلمون أنفسهم. وهو تاليا لا يوفر ذلك التماهي الحار الذي يطلبه عموم المؤمنين. إله المعتزلة بعيد، لا يُناجى، ولا يُنتسب له أو يُتماهى به. ولعل ما يُنسب إلى الأشعرية (ثم أهل الحديث)، من تعصب هو وليد هذه الحاجة إلى تقريب الله والانتساب له، أو تعريف النفس به.
عملياً تطور لدى الإسلام السني ما يكاد يكون قرآنين: القرآن والسنّة، وقد اعتُبِرت هذه موحى بها على يد الشافعي، وناسخة للقرآن. هذا يخفض سيادة القرآن ويرفع السنّة إلى مرتبة "أصل" كامل السيادة. ومثل ذلك تطور لدى الشيعة. لكن فضلا عن القرآن وأحاديث منسوبة للنبي تختلف عموما عن الأحاديث السنية، تشمل السنن الشيعية أقوالا وتصرفات منسوبة للأئمة الإثني عشر. المعتزلة، تاليا، موحدون بمعنى إضافي، القرآن هو "حديثـ"هم و"سنتـ"هم.
2
الحدث المؤسس للإسلام كأمة هو الهجرة من مكة إلى يثرب. ما كان لمحمد بن عبد الله أن يؤسس أمته لولا أن قطع روابط الدم والأهل والقبيلة. الهجرة أسست التحول من "الطبيعة" إلى "الثقافة"، ومن القبيلة إلى الأمة. ومن "الجاهلية" إلى الإسلام.
هذا يحكم فورا على المذاهب السياسية السنية والشيعية بالخطل. فسواء تقرر أن "الأئمة من قريش" أو أنها في علي ونسله من فاطمة، أو في آل بيته (مذهب العباسيين)، فإن في هذا ما يناقض معنى الهجرة أو فلسفتها. في عودة النبي إلى المدينة بعد فتح مكة تثبيت لمعنى القطع مع القبيلة والطبيعة لمصلحة الأمة والثقافة.
بهذا المعنى، الخوارج هم الأوفى لمعنى هجرة النبي عن مكة وقريش إلى يثرب بقبيلتيها ويهودها. ومذهبهم السياسي الذي يبيح أن يحكم الأمة أي رجل عرف بالتقوى أكثر توافقا مع الوحدانية المطلقة المميزة لدين الإسلام.
ما حصل في "السقيفة" كان فاتحة للتمزق الإسلامي ليس لأنه أبعد عليّاً، بل لأنه استبعد "الأمة" الناشئة، أو لم يجد لها ترجمة سياسية معادلة (وإنما لذلك آل أمر الأمة لاحقا إلى "العلماء" بدلا من "الدولة")، ونكص إلى القبيلة. عليٌّ نفسه، على نحو ما تمثل لاحقا في "السنة" الشيعية، ليس وفياً لفلسفة الهجرة. ولو حصل أن خلف النبي لكان هذا فوزا أكبر وأسرع لـ"الطبيعة" على "الثقافة" حتى من تولي أبي بكر. عليٌ ابن عم الرسول وزوج ابنته وأبو أحفاده الذكور، وكان من شأن خلافته للنبي أن يحصر سياسة الأمة في قرابة الدم وعلى أساس ديني صميمي ("حديث الغدير" أو غيره)، الأمر الذي لم يستطع ادعاءَہ الأمويون، والعباسيون من بعدهم. ليست تولية أبي بكر بحد ذاتها هي الخطأ من وجهة نظر استقلال الأمة عن القبيلة، بل الطابع المرتجل لتوليته، الذي سيحوز قوة السابقة المشَكِّلة، ويؤهل لانطباع السياسة الإسلامية بالارتجال حتى يومنا هذا؛ كما في تأسيسه لسنة حصر الخلافة في قبيلة قريش، وإقالة "الأمة" التي أقامها النبي المهاجر والمنبوذ من قبيلته من سياسة نفسها. تولية أبي بكر، بوصفه مهاجرا قرشيا، كانت بمثابة هجرة سياسية معاكسة إلى مكة، إلى القبيلة والطبيعة، رغم تكريس المدينة عاصمة للخلافة "الراشدة". الرشاد كان ناقصا وذاتيا، يسهل انكساره، ما دامت السياسة عادت إلى الطبيعة فور وفاة المؤسس. "الجاهلية" كاسم لـ"الطبيعة" فازت على الإسلام من باب السياسة رغم هزيمتها الظاهرة. بعد قليل سيحابي الخليفة الثالث عثمان عشيرته الأموية، وبعد قليل آخر ستتولى تلك العشيرة الأقوى والأقل تقبلا للرسالة ضمن قريش السلطة العليا باسم الإسلام. من يستطيع القول إن ما جرى في السقيفة لا علاقة له بذلك؟ بل هو ما أسس أن تستولي العصبية الأقوى. وهو ما أسس للحكم الطبيعي الذي سيدرسه ابن خلدون بعد نحو ثمانية قرون.
لكن كيف أمكن لذلك أن يحصل؟ وفي وقت مبكر من"المشروع" الإسلامي؟
3
نقترح إجابة تخطيطية تتمحور حول كلمة واحدة: الحرب. مارس الرسول نفسه نشاطا حربيا. هذا منح أهمية كبيرة للقتال، وجعل النشاط القتالي معيار إيمان. في القرآن ذاته تقريع شديد للمتقاعسين عن "الجهاد". وما كانت "حروب الردة" ممكنة بُعيْد وفاة الرسول لولا أن النشاط الحربي كان اعتياديا لأمة المسلمين الوليدة. ثم بسرعة خارقة تشكلت امبراطورية إسلامية واسعة عبر "الفتوح" التي جلبت ثروات كبيرة على العاصمة، وعززت وزن الولاة والمنظمين والقادة السياسيين على حساب أهل الأسبقية في الإيمان والدين الجديد. هذه الدينامية هي التي حملت السلطة إلى معاوية على حساب علي الأتقى والأجدر بما لا يقاس، والأوفى لمعنى الدعوة النبوية.
للحرب مقتضياتها. اعتمدت جيوش الفتح القبيلة وحدة عسكرية، وزج عمر بعد تردد قليل القبائل المرتدة في الفتوح، وأحدث ديوان العطاء الذي نظم الناس فيه بحسب قبائلهم وأصولهم. ما معنى ذلك؟ معناه أن الحرب هي التي نشّطت القبيلة. أن المشروع الإسلامي حمل في داخله جاهليته الخاصة عبر الحرب.
إن الجاهلية التي هزمت بالدعوة وبالحرب، بالحرب سوف تعود وتنتصر.
وعبر الحرب أيضا تجددت القبيلة وتمزقت الأمة.
وإذ تشكل الإسلام بسرعة كسلطة امبراطورية، دون سابق خبرة عند العرب في هذا المجال، فسيجري تشكل سلطتهم وفق عوائد وخبرات امبراطورية سابقة، البيزنطية والفارسية تحديدا، فيجد نفسه أكثر ابتعادا عن اللب الديني للدعوة الإسلامية. هذه قليلة النفع في مجال على هذه الدرجة من الاتساع. فكأن الإسلام، الدعوة الدينية، أطلق ديناميات تاريخية وسياسية واجتماعية ارتدت عليه هامشية. وعلى العرب، "مادة الإسلام"، غربة وضياعا.
وفي المجمل ما كسبه الإسلام من جهة: مجال امبراطوري وهيمنة اسمية ويد عليا للمسلمين، خسرها من جهة ثانية: الدعوة الدينية والإيمان. لقد مكر التاريخ بالإسلام المنتصر، حتى لم يعد واضحا ما الذي انتصر وما الذي انهزم، بل حتى لم يعد معروفا بالضبط ما هو الإسلام. وما يزيد الأمر تعقيدا أن الامبراطورية ستكون الإطار السياسي والثقافي والاجتماعي الذي ستنتج "الخطابات" الإسلامية في ظله، الخطابات التي لا نعرف الإسلام من غيرها. ليس هذا إطاراً سلبيا. إنه فاعل ومؤثر. وكل ما نعرفه عن الدعوة والسيرة النبوية مر عبر موشور هذا الإطار وضغوطه وتحريفاته، و"قرينة انكساره" الخاصة.
والخلاصة أن محمدا القائد بنى الدولة التي ورثها منه الخلفاء بتوسط الحرب. أعني أن ما سهل هذه الوساطة هو التحول السريع لمركز ثقل الإسلام إلى الدولة التي قامت على نشاط حربي كان الرسول قاده بنفسه، لكنه كان يتعدل بالرسالة، ويندرج ضمن عملية بناء الأمة. بوفاة النبي، كانت الرسالة انتهت، وطغى النشاط الحربي على مجمل فاعلية الدولة الوليدة. وإنما عبر الحرب، ورث القرشيون الذين عارضوا دعوة النبي الزعيم القرشي المنتصر الذي بنى دولة لم يكونوا هم قادرين على بنائها أو تخيلها، وأطلق طاقات حربية إعجازية ما كان من الممكن إطلاقها على غير أرضية إلهية عالمية هي التي أطلق عليها اسم "الإسلام". وبين هؤلاء آلت الوراثة إلى العشيرة الأقوى والتي يعرض عددا من أبنائها كفايات إدارية مميزة، بني أمية. لقد تحققت الغلبة لـ"الدم" على الدين، بوساطة الحرب.
ندر أن "استشكل" مسلمون "الفتوح" الإسلامية أو ساءلوها عن شرعيتها. أو تساءلوا عن الصلة بينها وبين النشاط الحربي للنبي. يخشون أن من شأن التشكك في الفتوح أن ينال من شرعية الدعوة النبوية بمفعول رجعي، فيصيب "الأمة" بطعنة نرجسية مميتة. إن شرط التساؤل هو التمييز بين شخصيات النبي أو وجوه شخصياته الثلاث، الإلهي و"الأموي" والدولتي. نستطيع أن نسائل أحد هذه الوجوه استنادا إلى ما نفترض أنه الوجه المؤسس للإسلام، الوجه القرآني.
***
من جانب آخر، دشنت الهجرة إلى المدينة تحولا من منطق انشراح الصدر (بالمفرد) الذي تحيل إليه سورة "الشرح"، والمتضمن تجربة روحية فذة لا نعلم عنها شيئا، إلى منطق "تأليف القلوب" (بالجمع) الذي نعرف عنه ما يكفي. أي من "الهدى" إلى "الأمر". كلا هذين المنطقين إسلاميان. أو آل الإسلام إلى أن يتضمنهما معا. لقد ألغى عمر سهم المؤلفة قلوبهم في الغنائم والصدقات. لكن كان كل شيء يسير باتجاه إشغال مؤلفي القلوب عربة قيادة القطار الإسلامي كله.
وفي النهاية نريد القول إن المشروع الإسلامي مركّب ويحمل توترات صميمية، بين الأمة والقبيلة، الهدى والأمر، الصدر المنشرح والقلوب المؤلفة. ويغدو التركيب معقدا إذا تنبهنا الى أن مكة تعني في آن القبيلة وانشراح الصدر، بينما المدينةُ الأمةَ وتأليفَ القلوب. هذا التركيب في أساس القول المعاصر إن الإسلام دين ودولة.
4
لكن قد يكون الأكثر إثارة هو ما قد نسميه النبي اليومي أو الدنيوي، الرجل الذي يمشي في الأسواق ويأكل بين الناس ويحب النساء والطيب فضلا عن... الصلاة، ويتكلم في شؤون الحياة الدنيا ونثرياتها كلاما لم يقصد له على الأرجح أن يكتب ويروى. الكلام الذي قصد له أن يحفظ وكفل حفظه هو القرآن، كلامه الإلهي، أما كلامه الإنساني فكان منفتحا على "نثر الحياة اليومية". وما ينسب إليه من نهي عن أن يروى عنه غير القرآن يستمد شرعيته العقلية كاملة من حرص مبدئي على عدم اختلاط كلاميه. ما حصل أن الكلام الآخر دوّن في ما بعد من الذاكرة، وحمل كل ملابسات الانتقال من ثقافة شفهية إلى ثقافة مكتوبة (ضياع، وضع، تحريف، إعادة تشكيل لغوية بحكم نوعية الوسيط الكتابي...). من جهة تم توظيفه في الصراعات السياسية العنيفة التي اخترمت "الملك" الذي أسسه أو تأسس على دعوته، الصراعات التي تفجرت عقب وفاة الرسول وانغلاق النافذة الإلهية. ومن جهة أخرى، كانت "السنة"، الاسم الذي سيطلق على أقوال النبي غير القرآنية وأفعاله، أساس سلطة ونفوذ من سيدعون الفقهاء والمحدثين. كان مخاطَبو النبي محمد في أقواله هذه هم أصحابه، "الصحابة"، النواة الأولى لأمة المسلمين. وبعد وفاته سيتمايز بالتدريج فريق يشتغل على الدين ويبني "الشريعة"، ويستعيد محمد اليومي (أو بالأحرى يعيد تشكيله)، متميزا عمن انشغلوا بالدولة والسياسة والحرب والنفوذ، أي جميع "الصحابة" تقريبا. على غير توقع منهم، ستحوز معاصرة ذاك الفريق للنبي أو لبعض من عاصروه قيمة كبيرة، ومن المنطقي أن نفترض أن بعضهم، الأقل حيازة لمؤهلات أخرى بخاصة (أبو هريرة مثلا)، عملوا على تضخيم قيمة هذا الرأسمال وتسويقه بين أجيال لاحقة، وفي إطار الملك الإسلامي الفسيح. ومن هذا الفريق الذي يروي سيرة النبي وكلامه سيتكون الفقهاء والمحدثون والمفسرون. ولعل تطوير الفقه هو ما مكّنهم من حيازة قدر من الاستقلال عن السلطان.
هذا رغم أن دولة الخلافة وفتوحها واجتماعها الامبراطوري وسلطانها الاستبدادي كانت "إطارا اجتماعيا" لمعرفتهم، استبطنوه وتمثلوا "حدوده" كي يصونوا استقلالهم.
الفقه صناعة ناشئة أيام الأمويين، ومترسخة أيام العباسيين. وكلما تبنين علم الفقهاء هذا وتشكل كميدان معرفة وخبرة مستقل شكل ركيزة صلبة لاستقلالهم عن الحكام وحيازتهم أهلية أو سلطة مستقلة. وإنما في صلة بذلك، تعرَض أبو حنيفة ومالك، وبعدهما ابن حنبل وابن تيمية، إلى الاضطهاد والتعذيب. فهم ممثلو ذاتية مستقلة، مستندة إلى علم خاص، متكون حول محمد البشري، ثم حول "صحابته" و"التابعين".
قد يقال إن الفقه لا يقتصر على "السنة" ومرويات العهد التأسيسي. بلى، غير أن الشيء الأصيل في الفقه والمميز له عن غيره هو "سنة النبي" التي فصّلها الفقهاء كأساس لسلطتهم. يمكن القول إنه كما تشكلت صورة الله بالنبي الذي نطق بالوحي وبالدين الذي تولد عنه، تشكل وسنته بالفقه الذي أسس لاختصاص الفقهاء وسلطتهم واستقلالهم. والميل العام للفقهاء منذ تلك الأزمنة الباكرة إلى اليوم هو منح وزن كبير لـ"السنة" إلى حد جعلها حاكمة على القرآن، لا يستغني عنها. وهذا مسلك دشنه الشافعي الذي جعل الحديث النبوي مرادفا للحكمة التي يعملها الرسول، إلى جانب القرآن.
إلى ذلك أتاحت "الشريعة" التي "صنعها" الفقهاء تماهيا أوسع من ذاك الذي تتيحه دولة استبدادية لا روح لها، تشبه زعامات قريش ثم ملوك بيزنطة وفارس، وأوسع كذلك من القبيلة التي ترسخت (على عكس مقصد دعوة محمد القرآنية) بفضل الحرب ذاتها كما قلنا. الهوية التي ينعقد عليها هذا التماهي هي الأمة الإسلامية. ومن هذه الزاوية الفقهاء ورثة الصحابة، وليسوا ورثة النبي وفقا للحديث الذي نسبوه إليه ("العلماء ورثة الأنبياء")، والأمة الإسلامية صناعتهم، وليست صناعة الخلافة، ولا هي من جهة أخرى صناعة محمد القرآني والمتكلمين والفلاسفة الذين ورثوه. فالتماهي الذي يتيحه علم الكلام أضيق من ذاك الذي يتيحه الفقه وأوسع في آن معا. أضيق عمليا لأنه يخاطب "الخاصة"، وأوسع نظريا لأنه كوني وإنساني وموضوعه هو الله ووحدانيته وصفاته. وقد يبدو أن تجريد علم الكلام لا يتيح تماهيا أصلا. لكن هذا التجريد نفسه يحيل إلى البعد العالمي للإسلام، البعد الذي يبطن حتى اليوم الوعي الإسلامي، سواء أخذ شكلا "إرهابيا" (القاعدة والسلفية الجهادية)، أو شكلا نقديا نجده عند أبرز المثقفين العرب والمسلمين المعاصرين (محمد إقبال، عبدالله العروي، هشام جعيط، عبد الكريم سوروش...).
أما الدولة فما كانت تتيح تماهيا لغير العصبية الحاكمة.
على أن الفقهاء، ومن أجل استقلالهم وتأسيس الهوية الإسلامية، شيدوا نظاما صنعيا بالغ التعقيد، استبطن، كما قلنا، النظام السلطاني كثمن لاستقلاله عنه. لعله لذلك، كان الفقه أول ما يواجهه الإصلاحيون الإسلاميون المحدثون.
5
الخلاصة أن محمد القرآني أو الإلهي أسس الإسلام الدين، الذي ورثه فيما بعد المتكلمون (موضوعهم الله وصفاته). أما محمد اليومي، محمد "السنة"، فقد أسس الأمة الإسلامية انطلاقاً من النواة الصحابية، وورثته هم الفقهاء و"العلماء" ورجال الدين الإسلامي في عمومهم. وأما محمد باني الدولة والقائد العسكري فقد ورثه الملأ القرشي والخلفاء والسلاطين. وبينما مات محمد القرآني (كان القرآن/ الدين اكتمل)، استمر محمد القائد حيا، فيما سيمر وقت قبل أن يولد محمد الحديث، وسيستمر "تنزيل" الحديث فوق قرنين. ومعظم الالتباسات في النقاش حول "الإسلام" تتولد عن تعدد دلالاته التي تتفرع أصلا عن تعدد في شخصية وأدوار محمد بن عبد الله.
ومنذ ألغى كمال أتاتورك الخلافة عام 1924 لم تعد دولنا إسلامية. انتهت السيادة السياسية الإسلامية بفعل انقلاب تاريخي عالمي كبير، لم يكن المسلمون غير مبادرين إليه فقط، ولا غير مشاركين فيه فقط، بل كانوا موضوعا له، سياسيا ومعرفيا. لقد فقدت دولهم السيادة السياسية و"علمهم" (الديني) السيادة المعرفية في وقت واحد، ولما تتشكل سيادات جديدة متمكنة في عالمهم. واليوم تخفق نسقيا كل محاولات فرض سيادة سياسية إسلامية هنا أو هناك بالقوة. تظهر على حقيقتها، مشروعات تسلط فظة، انقلابية، تعترض اعتراضا ذاتيا ومجردا على بنى موضوعية مترسخة في مجتمعاتنا ذاتها، ومن باب أولى في العالم من حولنا. فلا سبيل أمامها غير الانقلاب.
أما "الأمة" فليست موجودة إلا كمتخيل فقهي، واليوم كقاعدة اسمية لحكم الإسلاميين. أممنا المعاصرة ليست إسلامية إلا بمعنى وصفي لا يتضمن دلالات سياسية. هذا لأن الإسلام، مهما يكن رأي الإسلاميين والفقهاء، يتحول إلى دين فحسب، دين المؤمنين به، وهم ليسوا كل سكان بلداننا حتى حين يصادف أن يكونوا كلهم من منبت إسلامي أصلا.
لكن ما هو "دين" الإسلام؟ وأين هو؟ هذا لم يشتغل عليه أحد. مات محمد القرآني. وبعده هزم المعتزلة الذين كانوا نأوا بأنفسهم عن الصراع السياسي وانشغلوا بتدبر القرآن وما يقوله عن الله والإنسان. الفقهاء بنوا الشريعة كأساس لتماهي الأمة وأذابوا القرآن فيها، والحكام اهتموا بالدولة.
وبقدر ما إن الدين هو القرآن أساساً، فإنه لم يعامل معاملة مستقلة أبدا.
كيف أمكن لذلك أن يقع؟ كان القرآن تشكل في زمن مبكر. والأرجح أنه استقر في صورته التي نعرفها بعد نحو عقدين من وفاة النبي. أي قبل أن تتشكل للمسلمين امبراطورية واسعة ويتكون إطار تفاعل ثقافي فسيح، أو قبل أن يستوعب الجيل الإسلامي الأول هذه الواقعة الخارقة. القرآن سابق للحضارة الإسلامية. خلافا لذلك، الحديث والفقه معاصران لانطلاقها وقد نضجا مع نضجها، وهي مصدر "الوحي" بهما، والمحدثون والفقهاء هم "المستوحون". يكاد يمكن القول إن القرآن "غير إسلامي"، وإن ما هو "إسلامي" تماما هو "السنة"، بما فيها السنة الشيعية طبعا. على أن نفهم من كلمة إسلامي الحضارة، أو العالم والامبراطورية والسلطة، وليس الدين. والإسلام اليوم يستبطن هذا المعنى الذي ينزوي فيه القرآن لمصلحة ما ينبغي اعتباره "نصوص ثوان" (تفسير، حديث، سيرة، كلام، فقه...). كل ما جرى بعد استقرار القرآن كان يسير نحو إدراج القرآن في جسم مذهبي أوسع، يشمل "السنة" التي دام تشكلها أو "الوحي" بها أربعة قرون أو أكثر (بالمقابل، نزل القرآن خلال 23 عاما) والإجماع (إجماع الصحابة المفترض، ثم إجماع أهل المدينة عند مالك، ثم إجماع علماء هذا المصر أو ذاك في هذا العصر أو ذاك...)، ما يعني عمليا خفض مرتبة القرآن والتقليل من شأنه. وبينما كان الحديث ينمو طوال ثلاثة قرون تقريبا، ومعه وإلى جانبه الفقه، بقي القرآن ثابتا.
ثم إن القرآن سابق لانقسام المسلمين إلى سنة وشيعة، فلا يكاد يمكن توسله لخوض الصراع السياسي والإيديولوجي بينهما، خلافا للحديث والفقه والكلام، الصراع الذي لا ريب له دور كبير في تضخيم المرويات واختراع الأحاديث ورفض بعض الروايات، وانتشار الكتابات السجالية.
وهكذا تضخمت الشريعة التي أخذت تتكون الأمة حولها بعد غياب المؤسس، ثم انقسمت بانقسامها، وتضخمت الدولة التي تكونت حول الحرب، بينما الدين الذي يفترض أنه تكوّن حول القرآن تقلص مع التقلص النسبي لوزن القرآن، من كونه الرسالة وكل دين الإسلام إلى كونه أحد مصادر الشريعة، مع خفض أشد لوزن القرآن المكّي الممتنع على الاستثمار التشريعي. وتاليا مع تراجع انشراح الصدر، أي التجربة الروحية، لمصلحة تأليف القلوب، أي السياسة.
هذه مفارقة كبرى تطبع تاريخ الإسلام. تكون الإسلام حول الواقعة القرآنية التي تحمل وحدها صلة مباشرة مع الله. ثم بدا كأنه يعمل على الهروب من هذه الواقعة وإذابتها في جسم أوسع لا شكل له، يخف حضور الله فيه، لكن له اسم الإسلام ذاته.
وبالعودة إلى تمييز ثلاثة وجوه لشخصية النبي، يمكننا القول إن الوجه الإلهي تضاءل لحساب الوجه الأموي الذي يديره ويتحكم به "العلماء". أما الوجه الدولتي فقد أفلت مبكرا جدا من الأمة ومن "العلماء"، حتى أن الفقه لم يكد يطور شيئا ذا قيمة بشأنه غير "طوبى الخلافة" التي تستبطن استحالة الخلافة الحقة، وتركن إلى ما تسميه هي ذاتها "الظلم" كبديل عن "فتنة" تبدو داهمة دوما. وضمور الوجه الإلهي هو السبب في الأرضية المفرطة للإسلام المعاصر، انخراطه الكثيف والمرير في صراعات الدنيا، وتسخيره الله في هذه الصراعات.
فإن أمكن إعادة بناء الدين الإسلامي أو إصلاحه فعبر استقلال القرآن، أي تحريره من "الشريعة"، وإعادة تأسيس شرعية هذه عليه. ولعل من شأن استقلال القرآن أن ينعكس عليه هو ذاته تشكلا في صورة مختلفة، تعيد توزيع علاقات السلطة فيه لمصلحة الإيماني والروحي وانشراح الصدر، والقرآن المكي، وتخضع له البعد التشريعي والقرآن المدني وتأليف القلوب.
***
ليس من السهل عقلنة المقدس. لكن يبدو أن لا مفر من ذلك. انتشار التقديس، وشموله الدولة والقانون ("الشريعة") والأمة، على ما يستدل من كتابات أعلام الإسلاميين المعاصرين، مصدر إعاقة اجتماعية وسياسية وفكرية في عوالم المسلمين المعاصرين. والتقديس المنتشر هذا يثير تدنيسا منتشرا يتعرض له الإسلام المعاصر اليوم بشمولية لا تقل عن شموليته هو. وفي عالمنا المعاصر، لا يمكن فعل شيء ضد أبلسة متصاعدة للإسلام يثيرها ويستعر بها تقديسه المنتشر. ما ينبغي فعله هو حصر القداسة وتوسيع مجال غير المقدس (غير المحرم). ما هي النواة المقدسة للإسلام؟ الرسالة المتضمنة في القرآن. الفقه والشريعة والدولة و"الأمة" والحزب و"العلماء" بشريون ودنيويون مثلنا. يتعين "فتح الإسلام" وتقليب النظر في تكونه لملاقاة الانفصال الحديث المحقق لكل من الدولة والأمة عنه.
وبينما لا نتصور حصر القداسة فعل إقناع محض، ونراه بالأحرى فعلا تأسيسا، فعل انفصال عنيفا وموجعا (لعلنا فيه الآن من وجهة نظر تاريخية)، فإن من شأن العقلنة، بما هي تنظيم التفكير وإدخال شيء من الترتيب في المجمل الإسلامي الذي لا شكل له اليوم، أن توفر للفعل التأسيسي وجهته وبعض معناه. وربما أن تسهم في اقتصاد العنف أيضا.