ربيع مروة

3-Rabih Mroue

مذ أصبح العالم آلة ضخمة لصناعة الصور وبثها في جميع الاتجاهات، تحوّل الموت إلى مشهد يومي عادي نشاهده من دون مقدمات على شاشات التلفاز، أو في صحفنا اليومية، أو على شبكات الانترنت... في أكثر الأحيان، بالغ إعلامنا المرئي في استخدامه صور الموت والدمار وفي عرضها، وبالغنا، نحن المشاهدين، في مشاهدتها. لم ندع فرصة واحدة تفلت منا للتلصّص والنظر إلى نكبات الآخرين ومصائبهم. في طوفان الصور هذا، وفي سرعة توالدها وتكاثرها المستمرين، كيف للعين أن ترى ما ترى وتفهم ما ترى؟ يخيّلُ لي أن كل صورة تأتي لتمحو الصورة التي سبقتها، وعليه يستطيع كل منا أن يكمل عيشه من دون آثام ولا أوجاع. ولكن كيف للصورة أن تكون امتداداً لتجربة الناظر الجسدية؟

الجسد هو السؤال الرئيس في السطور التالية.

إلغاء الجسد/الفرد

علمتنا الحروب الأخيرة أن هناك طريقتين لشن الحروب، واحدة تُخاض عبر الضغط على الأزرار وثانية تُخاض باللحم الحيّ. الأولى بآلات حربية متطورة جداً والثانية بأجساد تنفجر.

قبل زمن ليس ببعيد، شاهدنا حرب الخليج مباشرةً على التلفاز. لم تكن هناك أجساد مقاتلة ولا أجساد مقتولة. كانت "حرباً نظيفةً". قبل زمن ليس ببعيد وحتى الأمس القريب شاهدنا رسائل فيديو مرسلة من قبل أجساد مزنرة بأحزمة جاهزة للانفجار، كما شاهدنا انهيار البرجين التوأمين، لكننا لم نر أجساد المصابين ولا جثث المقتولين. ورأينا في لبنان ولا نزال نرى في العراق وفي فلسطين، آلاف الجرحى وآلاف الجثث عرضة لعدسات المصورين وبثها على الهواء من دون محرمات ولا عوائق أو اعتبارات.

بين آلة الحرب البالغة التطور والجسد الجاهز للانفجار، كيف يمكن لأجسادنا الشخصية أن تدافع عن حقها في الوجود وحقها في التعبير؟ هل لا تزال قادرة على فعل ذلك؟ كيف لنا أن نتعامل مع ثنائية الإرهاب/الحرب على الإرهاب؟ أين تقع أجسادنا بين ثنائية الآلة الحربية/الجسد الملغّم؟

في الواقع، ما يجمع بين الحالتين هو إلغاء الجسد/الفرد لصالح سلطات أمنية أو دينية أو شمولية من كلّ نوع... لكنْ رغم تعدد أسباب كل من هذه السلطات واختلاف أساليبها، يبقى الإلغاء واحداً.

فمثلاً، في مقدور السلطات الأمنية أن تتدخل، في أي وقت تريد، في خصوصيات وحميميات مواطنيها. فهي، مثلاً، تزرع كاميرات مراقبة في الأماكن العامة وتستصدر قوانين استثنائية للتحقيق مع أي مواطن قد يشتبه به، وهذا إلى جانب البطاقات الممغنطة الخاصة بالمواصلات العامة وتلك البطاقات الشخصية للحسابات المصرفية الخاصة التي يمكن عبرها رسم تحركات أي مواطن وبشكل دقيق. وطبعاً لا ننسى الهواتف النقالة وشبكات الانترنت التي من خلالها يمكن للسلطات أن تتسلّل وتطّلع على خصوصيات من تريد من دون استئذانه.

والمواطنون، بدورهم، يقبلون، طوعاً، بهذه التدخلات السافرة وهذه القوانين الطارئة. فالجسد/الفرد مطالب اليوم بالكشف عن مكنوناته في مقابل الحفاظ على سلامته الفيزيائية - على أمنه. لذا تمنع السلطات الأمنية وجود أجساد مغلّفة بالأسرار، بل تحفز مواطنيها على تعميم خصوصياتهم، وتدفعهم إلى مساعدتها على ذلك من أجل خوض حربها على الارهاب وإلحاق الهزيمة به. وهذا الارهاب لا يملك جسداً يُقاتَل، ولا جيشاً يُحارَب، أو مليشيا تُلاحَق، كما أن لا مقرَّ له كي يُداهم. فأين هو الارهاب؟ في أية بقعة يقيم؟ أهو هنا؟ هناك؟ في الشرق؟ في الغرب؟ من هو؟ أنا؟ الآخر؟...

ثمّ إنّ السلطات الدينية والأنظمة الشمولية تطالبنا كذلك بالتنازل عن أجسادنا الفردية لمصلحة جسد الجماعة، بينما السلطات الأمنية تطالبنا بالتنازل إيّاه لمصلحة جسد المجتمع..

وهكذا لا تثقل معضلة الفردية والحريات الشخصية على شعوب الأنظمة الشمولية وحدها، بل تطاول مواطني الدول الديموقراطية أيضاَ وتهددهم.

بين الإرهاب وإعلان الحرب عليه تُلغى الأجساد. هنا وهناك أجساد مستعدة للانفجار في أية لحظة. هنا وهناك أجساد مستعدة للتخلي عن حقوقها المدنية والفردية لتُثبت أنها بريئة من هذا الإرهاب. وفي الحالتين يحضر تعبير حاد عن إلغاء الجسد.

في نطاق آخر تعمّم السلطات الإعلامية صورة لجسد نموذجي. جسد ميديويّ معولم يقيم في مجالي الإعلام والإعلان. إنه جسد مثالي، كامل الأوصاف، رياضي وجميل، لا يمت إلى أجسادنا بأية صلة. هو جسد لا يعرق، لا يفرز روائح ولا سوائل، نظيف، منتصب القامة، فخور ومنتج، جسد تشتهيه أجسادنا، يحتاج إلى رعاية دائمة تماماً كجسد الممثل كما رسمه لنا مخرجو ومنظرو المسرح منذ نهاية القرن التاسع عشر. لا أدري لماذا تختلط الأمور في رأسي عندما يُؤتى على ذكر مسألة الجسد الميديوي. هل لأن جسد الممثل، على ما علمنا كبار رجال المسرح في القرن العشرين، لا يشبه الجسد الذي تقدمه لنا الميديا؟

ربما في الأمر بعض من المبالغة. لكن يبدو لي أن المسرح، كما تعلمته خلال دراستي الجامعية، يتطلب منا جسداً مواظباً ونشيطاً، رياضياً ومنضبطاً، يكون ذا أخلاق عالية، مطيعاً ومطواعاً، مُصاناً، فاعلاً وفعّالاً. وليس يسعني إلا أن أقرّ بأنه ليس في مقدوري امتلاك جسد كالذي يتطلبه منّا هذا المسرح. ولا أعرف أحداً من زملائي وأصدقائي وعائلتي وحتّى جيراني يملك هذا الجسد. فما يتراءى لي أننا ذوو أجساد تعبة، كسولة ومنهكة ورخوة، ومنفلته لا يمكن ضبطها. أجسادنا تبدو كئيبة، تملأها ندب الحياة ومشقاتها. ذاك أن الجسد الذي نملكه ليس مثالياً ولا نموذجياً كذاك الذي يشتهيه مخرجو المسرح الكلاسيكي أو المسرح الجسدي أو الاستعراضي، ولا كذاك الجسد الميديوي المنشود الذي لا نراه إلا في الصورة، والذي لا يملّ من دعوتنا إلى التخلّي عن أجسادنا والى استبدالها بصورة معممة معولمة. فأن نتخلى عن أجسادنا يعني أن نقرر، منذ اللحظة، أن نخرج إلى العالم ونقيم فيه علاقات من دون أجساد على حد تعبير بلال خبيز. بمعنى آخر، أن يرتدي كل منّا جسداً افتراضياً ويدخل به إلى العالم تاركاً جسده في عزلة، مرمياً خلف شاشة الكومبيوتر أو جهاز التلفاز أو...

والسؤال هنا: كيف يمكن لأجسادنا تلك أن تكون على خشبة المسرح؟ كيف ستواجه جمهور المسرح؟ أي تمثيل وأي تصوير ستقدم إلى هذا الجمهور؟ كيف ستبني عروضها المسرحية؟ هل نقف على المسرح لنواجه صورة جسدنا المنبوذ أم لنهرب منها؟ وأي طريق سيسلك هذا الجسد؟ ما هي التجارب والاغراءات، المسالك والتحديات، التي تنتظره؟

الأجوبة ليست بسيطة، لأن المسألة ليست في كيفية تمثيل أجسادنا على خشبة المسرح أو تصويرها، ولا في نقلها من الواقع ووضعها بأمانة أمام الجمهور، إنما التفكير في العرض الأدائي من خلال مفهوم مغاير يأخذ أجسادنا في الاعتبار - التفكير في العرض الأدائي بما قد يعنيه الجسد في المسرح محشوراً في ثنائية الآلة الحربية/الجسد الملغّم ومسحوقاً بين الإرهاب والحرب على الإرهاب.

المسالك...

خلال الاعوام القليلة الماضية، ومن موقعي كمشاهد مسرحي، شهدت على توجهين، من ضمن توجهات أخرى، في ما يتعلق بكيفية مقاربة الأداء المسرحي. هذان التوجهان يبدوان متناقضين لكنهما مثيران للاهتمام. وفي رأيي، هما يستحقان التوقف عندهما قليلاً لمحاولة فهم طبيعتهما، وكيفية تناولهما مسألةَ الجسد من خلال الطروحات الجمالية والفنية التي يقدمانها، والتمعن في هذه الطروحات كأعمال تجادل وتبطِّئ عملية إلغاء الجسد/الفرد.

الأول يميل إلى العروض ذات التقنيات المتطورة جداً، حيث تلعب السينوغرافيا، من ديكور وإنارة وآلات خاصة وموسيقى، دوراً أساسياً بحيث تطغى على مساحة الجسد على المسرح.

ثلاثة أعمال نذكرها على سبيل المثال وليس الحصر:

Stiffer's Things by Hiener Goebbels

Purgatorio by Romeo Castellucci

Evaporated Landscapes by Mette Ingvartsen

تحضر في هذه الأعمال الآلات والتقنيات والمؤثرات البصرية بقوة فتهيمن على جسد الممثل أو الراقص، أو تحجبه عن الجمهور، وأحياناً تخفيه كلياً... هي عروض ضخمة تخلق عوالم متخيلة تنافس الواقع الذي نعيشه وتتفوق عليه.

أفترض أن في ذلك محاولة للتغلب على صور العنف والكوارث الطبيعية والحروب التي تجتاح حياتنا اليومية. فهذه العروض تحاول أن تُبعد مشاهديها عن وطأة وغزارة تلك الصور التي تبثها وسائل الاعلام من دون توقف، وأن تأخذهم إلى مستويات جمالية أكثر إثارة، فتحثهم على التأمل والتفكير، وتنقلهم بعيداً من العواطف والأحاسيس السهلة وذرف الدموع أو الضحك النابع من تلك النكات الخفيفة والمسطحة.

العروض تحاول أن تأخذ جمهورها إلى فسحات من التأمل والمتعة الحسيّة والفكرية من دون إعطاء دروس في الأخلاق، ومن غير تهكم ولا مواعظ. فهي تسعى نحو كمال تقني تنافس به السينما والفيديو والتلفاز، وذلك بغية إبقاء فكرة المسرح وفنون الاداء الحيّة حيوية وفعّالة ومتجددة أمام التطور السريع للعلوم التكنولوجية والتقنية.

وعملية حجب الممثلين هنا تولّد إرباكاً لدى المشاهدين، نتيجة فراغ غير اعتيادي يطرأ على المسرح. فالأخير، كما تعلمنا وتعودنا، لا يقوم من دون الممثل. فما هـذا الذي نراه؟ هل هذا مسرح؟ الممثل موجود لكننا لا نراه. إلاّ أن غيابه يملك حضوراً أقوى، حضوراً ينبع من سؤالنا الملحاح عنه، ومن حاجتنا إلى رؤيته ووضعه على الخشبة. هنا يكمن أحد أهم عناصر هـذه العروض.

أما الاتجاه الثاني فله شكل معاكس للأول. فهو ينحو نحو الواقع. يستمد موضوعاته من أرضه ويستخدم عناصره وصوره من وثائق وصور وأحداث حقيقية معيداً تقديمها إلى المشاهدين بعد تفكيكها وتحليلها ونزع الهالة المحيطة بها.

ثلاثة أعمال نذكرها على سبيل المثال وليس الحصر:

Pichet Klunchun and myself by Jerome Bel

Instructions for forgetting by Tim Etchells

Appendix by Lina Saneh

تعتمد هذه العروض على تقنيات بسيطة ومتقشفة جداً، وهي غالباً ما تأتي من دون مؤثرات بصرية أو سمعية، سلاحها الأساس الكلمة حتى لو أكثرت أحياناً من استخدام الصور والفيديو والـPower point. ولكن في المحصّلة، يبقى الكلام فيها حجر الأساس: من خلال الكلمات تُخلق الصور في أذهان المشاهدين وتطلق مخيلتهم. والتمثيل موضع بحث وتنقيب. أعمال تلهو بين الواقع والتخييل، بحيث تصبح الحدود الفاصلة بينهما موضع تساؤل وشك، فتمزجهما ثم تخلط بينهما، حتى تدمجهما بحيث يصعب فصل واحدهما عن الآخر. فمن غير المجدي للمشاهدين أن يدخلوا في محاولة الكشف عما هو مستمد من الواقع وما هو مُضاف إليه وما هو تخييلي صرف. ذاك أن هذه العروض لا تغشّ جمهورها ولا تخفي أدواتها عنه، فكل شيء مكشوف ومعلن. كما أنها لا تدّعي تقديم حقائق مغايرة في مقابل حقائق كاذبة، ولا تزعم أن في مقدورها تقديم رواية بديلة للتاريخ تصطف إلى جانب رواياته الأخرى والعديدة. المهم هو العرض الذي سينبني على الخشبة بصفته مادة للتفكّر والبحث والمساءلة والنقد والتأمل.

من ناحية أخرى تَلغي هذه الأعمال المواجهة التي تُنسج عادةً في البناء الدرامي بين شخصية وأخرى. تلغي التشنجات بين مختلف الشخصيات. تلغي المناجاة أو ما يُسمّى بالمونولوغ الداخلي. وإذ تُلغى كل هذه الصراعات الظاهرة والخفية من على الخشبة، يتم توجيهها نحو المشاهدين. وهذا ما يخلق تشنجاً كامناً وصراعاً مكبوتاً بين ما يجري على الخشبة والجمهور المتابع للعرض.

تُلغى إلى حدٍ ما الشخصيات الدرامية في العرض، وإن وُجدت فإنّما كمزيج مركّب بين قصص الممثل الحقيقية وتلك المكتوبة، بين الشخصي والتخييلي، بين الواقعي والمُؤلَّف. في هذا الاتجاه من العروض يكون الجسد أيضاً غائباً. الجسد موجود لكنه غير فعّال. إنه كسول لا يتحرك، يحل محله اللسان. بكلام آخر، إنه جسد حاضر بالكلمات التي ينطق بها لسانه. جسد لا يفعل بل يفكر. أو أنه، بكلام أصح، لا يتحرك بل يفعل بالكلمة والفكر، كون الفعل الجسدي على خشبة المسرح فعلاً ناقصاً بطبيعته، ولا يمكنه أن يكون تامّاً.

من هنا يأتي التركيز، في عروض الاتجاه الثاني، على الكلام بوصفه مادة لخلق الأفكار والتأملات التي تميزنا عن باقي الحيوانات التي لا تعرف سوى التعبير عما تشعر به من ألم أو حزن، أو من فرح أو رضا إلى ما هنالك من أحاسيس. فعبر نطق الكلمات وعبر سماعها، سواء بسواء، تنشأ محاولة لرد الاعتبار إلى حاسة السمع في مقابل تسلّط حاسة النظر على الحواس الأخرى كافة.

واو

في الحقيقة ما يجمع بين الاتجاهين الاثنين غياب جسد الممثل من على خشبة المسرح أو تغييبه.

والتغييب لا يعني الإلغاء، كما أن الغياب لا يعني الموت. إنهما وسيلتان نواجه بهما إلغاء الجسد/الفرد الذي تسبب به الإرهاب كما الحرب
على الإرهاب.

فالغياب والحضور لا يشكلان ثنائية في الواقع، إذ الغياب يتشكل في ظل فكرة الحضور، والعكس صحيح. إنه يعني أن شخصاً ما كان يفترض حضوره لكنه لم يظهر لسبب أو آخر. وبهذا المعنى ينطوي الغياب على وعد بالعودة، وعد بالظهور وبالتجلّي.

فأهمية الغياب تأتينا بوصفه سؤالاً عن معنى أن نكون: نكون أو لا نكون ليست بمسألة، إنما المسألة، وكما صاغها المخرج الإيطالي روميو كاستولوتشي، في أن نكون ولا نكون في الوقت نفسه. إذاً المسألة لا تكمن في "أو" التخيير والاستبدال إنما في "واو" الجمع والاستئناف. إنها "واو" على مثال تلك التي في شريط غودار السينمائي: "هنا وهناك". فالمسألة إذاً ليست في التخيير بين وجود الجسد أو إلغائه، بل في حضوره وغيابه معاً.

فأنا هنا لكنك لا تستطيع أن تراني. شيء ما مفقود. المفقود هو حالة كمون، والكمون مفهوم آخر مشتق من مفهوم الغياب. يعرّف الفنانان خليل جريج وجوانا حاجي توما الكمون بأنه "حالة ما هو موجود على نحو غير ظاهري، يملك إمكانية الظهور في أي لحظة. يعبّر الكمون في هذا المعنى عن الفترة الزمنية التي تفصل بين الحافز وما يستدعيه من استجابة له".

أما المفقود الغائب فقادر على زعزعة الاستقرار، وهنا تكمن أهميته. فعندما ندرك أن شخصاً ما لم يظهر في وقت محدد ومكان معيّن كان ينبغي أن يكون فيهما، عندها يُعلَّق كل شيء في انتظار معرفة مصير المفقود. والأمر ذاته يصحّ إذا ما فقدنا شيئاً نحتاج إليه. المفقود يؤجل. يهز السكون. يخلخل الطمأنينة. يربك الحضور. المفقود الغائب حالة بين الحياة والموت. هو موجود هنا و هناك ولا ندري. حاضر لكنه غير مرئي. ليس ميتاً إلا أنه ليس حياً. ببساطة، نحن لا نعرف عنه شيئاً، وليس بمقدور أحد أن يبرهن أي أمر سوى مسألة الغياب نفسها. وعد العودة سَبَب ٌ لتأجيل الحياة و لرفض إعلان الموت، وكل شيء سوف يبقى معلقاً إلى حين عودة الغائب أو إعلان الوفاة، فعندها تستأنف الحياة. وفي الحالة الثانية يأتي الاستئناف من دون قلق الغياب. إنه استئناف قد يتخلله تذكّر وتذكار وبعض الدموع والقصص لا أكثر.

والغياب والحضور معاً داخل الكلام نفسه، يمدان العرض بقوة التمثيل والتصوير. ذاك أن غياب الممثل وغياب المسرح، تأكيد على سطوة حضورهما. ففي ظلّ وطأة الثنائيات ويقينها الحاد، بل القاتل في أكثر الأحيان، يبدو لي أن الإصرار على إنجاز عروض مسرحية ناقصة لا مفر منه. إنه إعلان تأجيل. وفي التأجيل تعليق للوقت كما يتفلّت الزمن فيه وقد لا يُحتَسَب، بحيث يصير وقتاً للتأمل والتفكير، للتردد والتشكيك، للسؤال والاجتهاد، للهو واللعب.

وفي غياب المسرح، لا يهم عدد العروض أو مكانها، بل المهم الكلام الذي سيصف العرض على أنه حَدَثَ فعلاً، والنقاش الذي سيخلفه العرض، والحديث الذي سينتج أفكاراً وصوراً مدهشة - الحديث الذي سيدور هنا وهناك في الوقت ذاته، وسوف يصبح هو العرض بعينه، و من دونه لا يستقيم أي معنى له فكأنه من دونه لا يحدث.

إعلان فراغ

في تغييب أجسادنا، ستكون خشبة المسرح مساحة فارغة مسكونة بأشباحه، نغلّفها بالكلمات والأفكار والملاحظات والشكوك والأسئلة. موجود هو العرض إلاّ أنه في مكان آخر... موجود في هذا الفضاء المسكون، في هذه المساحة الفارغة التي لن يقوى أحد على احتلالها لوقت طويل مهما كان الوقت طويلاً. مساحة فارغة لمن يريد، ولمن يريد أن يشغلها فليكن ذلك لوقت قصير فحسب.

خشبة المسرح وُجدت كي تستقبلنا لبرهة من الوقت. عند لحظة الدخول تبدأ لحظة الخروج. المسرح وُجد ليبقى خالياً. الفضاء الخالي فضاء سخي ومعطاء، وخشبة المسرح ليست مكاناً لإقامة دائمة. فليكن إعلان الغياب قوة المسرح، لأنه غياب موعود بالعودة، فيما إعلان الفراغ علامة على حضور الغياب. هو بحث مستمر عن مفقود.

ربما الأجدى أن نؤجل جواب الجسد وتظهيره ونعلن فقط غياب أجسادنا اليوم. ربما الأجدى أن نبتعد عن المسرح ونشير إليه بأصابعنا من بعيد، وأن نقدّم أعمالاً حيث شبح المسرح موجود. فلننظر إلى المسرح من بعيد، ولنتطلع إلى مدينتنا من بعيد، وفي نفوسنا رغبة عارمة للدخول إليها مجدداً، ولبرهة، قبل أن نرحل، ربما إلى الأبد.




      © 2014  كلمن. جميع الحقوق محفوظة.
نشرة كلمن

نسيت كلمة المرور

أدخل عنوان بريدك الالكتروني:
     
سيتم إرسال كلمة سر جديدة الى صندوق بريدك.
ملفات تعريف الارتباط

لاستخدام سلة الشراء ومكتبة كلمن، يجب تشغيل ملفات تعريف الارتباط (cookies) في المتصفّح الذي تستخدمه‫.‬ ان كنت لا تعلم ما هي ملفات تعريف الارتباط (cookies)، الرجاء مراجعة قسم المساعدة في متصفّحك‫.‬