(ومن الكتابة، وفاء للأخ العزيز عبد الله الخطيب، ومنه إلى سنوات قليلة وكريمة).
شارع ”كومّيرس“- التجارة - سيبدأ قبل ”شارلي بيردي“ - مورد البهجات الليلية - وكنيسة ”القديس باتيست“ علامة أحد طرفيه الباذخين، والمميزين وسط الدائرة 15 من باريس، سيأتي أنني قبل شهر سكنت بالقرب من محطة ”مترو- لاموت بكيي قرونيل“، وعمّا قليل سنعرف أن أول بائع لحوم، في ناصية الشارع، سيكشف أنه قادم من جزيرة ”سِسليا“، صقلية، وأن له دماً راكضاً في التاريخ حتى العرب، وأن الاستديو - المنزل - الذي أسكن فيه يطل على الشارع، وفيما بعد ستزيد إطلالتي المستمرة على رجل ”سِسليا“، وعلى تلك الفتاة بالذات عندما تُكرر زيارتها له بالسؤال عني. أما السيدة ذات الخمسة والستين عاماً فكانت تقف إلى جواري في موقف ”كامبرون“، تنتظر الباص، وسترفض الجلوس إن دعوتها لأخذ مكاني في مقعد الانتظار. لن تقبل بدعوى أنها تفضل الوقوف لأنها ما زالت تطمح في أن تزداد طولاً قبل السبعين، والجلوس سيحد من رشاقتها أيضاً، كما ستقول. الفتاة - هي ”ماتيلد“، والتي ستُعاود في الأيام المقبلة زيارتها لمسقط إطلالتي، سوف تبتسم على مداخلة السيدة تجاه دعوتي. بعد قليل ستذكر الفتاة أن عمّها يُؤكد: ”القبلة تزيد من طول الفتاة“. أنا سأُعلق متفحصاً جذعها المحاط بالحيوية والثقة: ”هذا يعني أنك كثيرة القبل...“. ستبتسم في خجل وترد بما يدعو لحديث يتسع بدأته أنا عند الإشارة إلى طولها، حديث ليس له قياس شخصها وهو يحتد عندما ترد: ”عمّي يُفاخر بقوامه الفارع. كان له الفضل على كثير من الفتيات اللواتي فعلنها... كن يجدن صعوبة في الوصول لقطف قبلة منه“. ستتذكر عن عمّها: ”وهذا ما جعلهن بالمثابرة طويلات حين يقفن على أصابع أقدامهن عند تمام ظمأ شفاههن“. ستصمت لتفكر قبل أن تُضيف: ”على أيّ حال... أنا لا أحب بهذه الطريقة“. ستنظر إليّ لتبين وجاهة ردها وهي تُدافع عن أنوثة لم تكن خفية. وهكذا سأصمت لأعود من جديد أسألها: ”إنكم من النورمندي؟!“. ستنظر إلي ببهجة متوقعة وستُوافقني دون تعجب: ”تحديداً من مدينة روان“. لاحقاً سنرى أنها هنا في باريس تُكمل دراستها الجامعية في المدرسة العليا للعلوم السياسية ”سيانس بُو“، واليوم ستقضيه في مكتبة ”فرنسوا ميتِران“ بعد أن تمر بنزل صغير للغداء مع عمّها - سيد القبلات.
”ماتيلد، تشرفنا“. ”طلال من العربية السعودية، تشرفنا“. هذا حين التقيتها في المكتبة - يوم أمس - وتحدثنا عن التاريخ والآثار وتحدثت هي أكثر عن عمّها.
إنه صباح الخميس - اليوم التالي - وسألتقي بها في الموقف مصادفة رغم أننا صرّحنا بشكل عام عن مقر السكن لكل واحد منّا. بعد وقت ستقول إنّ جدتها تنصح: ”على العشّاق أن يلتقوا مثل أجدادي الغجر“، سيصلني ما ترمي إليه تلك العجوز القديمة. أجدادها يلتقون بغيرهم على الغناء والرقص الذي افترقوا عليه قبل ثلاثين عاماً. هكذا هم الغجر دوماً فمن حيث انتهوا ـ قبل سنوات بعيدة ـ يبدأون دون تقليب أخبار ولا بيان مسرّات أو أحزان ولا حتى السؤال عن الغائبين مهما امتد الزمن عليهم بالفرقة. مع ”ماتيلد“ سأتبادل ”صباح الخير“ بطريقة تكشف أن بذرة معرفة تنمو بشكل صحيح دون عقبات. سنُشرق بفرح حال نلتقي في موقف الباص، لكن لم نكن عاشقيْن. سأعتقد من طرفي أن هناك عشباً من الشغف، وسنعرف معاً قرب المسافة بين عنواني السكن. لن أكشف لها أنني شاهدتها أمس تستقل ذات الباص؛ بل سأُلازم - اليوم - الموقف ولن أصعد أي حافلة تقف حتى تصل. لن تعرف بأنني أُراقبها منذ شهر عبر هذا الخط وأتحاشى عينيها كل يوم. هي ستقول لي في المكتبة: ”سبق ورأيتك في شارع كومّيرس...“.
بعد قليل سنتواطأ ضد قلق السيدة الستينية من تأخر الباص. أحببنا ذلك. ”ماتيلد“ بعيون زرقاء ليست قابلة للقصيدة والكتابة ولكنها قابلة لأقرب معنى يتعلق بالحياة المهذبة فقط. لاحقاً أعرف منها أن ”إيقريك“ - عمّها - وسيم جدّاً ويُحرّضها على مشاغبة الناس بودٍّ دون أن يعرف أنّني سأقول لها: ”سأحرّض الشعوب على عشقك لتزيد نضارة بلدانها“. كأنّها ستضحك لو قالت: ”أنت محتال“. لكنها لن تتجرأ لموانع تتعلق بشكل الودّ اللازم للمشاغبة كما أوصاها عمّها. ستكتفي بشفتين من الروز عندما تقول: ”عمّي باحث في العمارة وأسرّ لي أن البيوت تأخذ شكل القلوب التي تحبها“. ”ماتيلد“ حصّة الأمل في تمام تحققه بكفاءة عالية. فيما أنا أجدل عنها تلك الصورة ستعود الستينية لمجابهة القلق بتعليق على محادثتنا وهي تقول بهمس: ”لم تعد تلزمني أحذية عالية فأنا عاشقة ولكنني الآن أرملة ولا أحد يستحق“. لن تتحدث بحزن ولا مجال للسكوت في اللحظة القادمة بعد مداخلتها الذكية. ستتبعها ”ماتيلد“: ”حتى أنا لا أحرص عليها فلا أحد في حياتي“. سأُضيف أُمازحهما: ”أمّا أنا فلا تليق بي...“. ستضحكان وأستغل البهجة لأرى فمها يكاد يُفرخ عصفورَ الحياة.
حسب مؤشر الموقف بقيت دقيقة على وصول الباص. دقيقة تاريخ طويل من الربكة. ”ماتيلد“ لن تنظر إلى الساعة كما تفعل الأرملة. الجو سيكون منزوعَ الشمس وسيضطر إلى غيم وبرودة - ربما - كيلا يخذل الناس الذين رصّوا أجسادهم بالملابس الثقيلة. أنا لا أُجيد التوقع كما يفعل الفرنسيون مع حالة الطقس. الإطلالة وحدها تشرح لي حالة الجو. ولأن رجل ”سِسليا“ هناك لا يُثقل جسده بالتدفئة فقد كان مؤشراً خاطئاً لحدسي. في كل مرة سألوذ إلى سقفٍ ما حتى أعود إلى البيت الصغير جداً. البيت الذي لا أتمنى أن يحبه قلبي كيلا تتحقق مقولة المعماري ”إيقريك“.
فيما بعد ستشرح لي ”ماتيلد“ علاقتها المباشرة بعمّها وقربها منه أكثر من والدين افترقا مبكراً وتراهما في مكانين مختلفين من العالم، تلتقي كلاً على حدة، مرة في شتاء ”هلسينكي“ حيث أمّها الفنلندية الأصل وحيث محاولات صنع كعكها الخاص من طرف جدتها، وصَيْفاً تزور والدها ”النورمندي“ جداً وقد اتخذ من ”لُو آفر“ مقراً يدوم بعمر زواجه الثاني الذي لا تراه ”ماتيلد“ سيعيش أكثر من عامين، ولاحقاً ستُعدد لي أسباب أبيها المستمرة للتخلص من النساء، وأول أسبابه أنّهن لسن كالعشيقات مملوءات باللهفة أكثر من رائحة البيت. وستقول ”ماتيلد“ السبب الذي تحتفظ به لنفسها عن أبيها، وهو أنه مثل القطار حميم في أول الأمر لأنه سيأخذك لمكان آخر، ومع مرور الوقت تكتشف أن الأمكنة تتشابه عند القطار، وأن ذلك الدفء لم يكن إلاّ من لوازم التعارف، وسوف تختصر وتقول: ”أبي يضعهن مثل النقطة في آخر السطر، وعليه أن يبدأ من جديد أو يموت“. ستُضيف متحققة من إضافتها بمد يديها بيننا مثل محبة: ”بصدق لا أُريده أن يموت ولا أحب النقاط حتى في بحوثي“. ثم سنُكمل هذه الجزئية بضحك شارد في الأسئلة التي لا تُعلن أبداً من كلينا ولو لمرة واحدة، منها: ”هل تفكر بي الآن؟!“، ”هل تشعر بحاجتي للمس؟!“،... سنُلاحظ لاحقاً أنني وحدي من طرح الأسئلة في خفية بينما هي ستُعلن صراحة: ”أنت تعجبني!“. ثم لن تتجاهل جدتها ”الرومنية“ التي تدّعي أن الحكايات الخرافية تدل على أصالة أهلها - غجر ”الرومن“ - ، لذلك تتفاخر بمرابطتها وتزيين قومها بتلك الحكايات. ولنهرب معاً عكس العشب الفار من الصدر؛ ستُشير ”ماتيلد“ إلى تعريض تلك الجدة بكذبة المقاومة في فرنسا لولا رد الجميل من أميركا. سأُغمض لها عيناً واحدة بخفة وإشراقة عندما أقول: ”إنه موقف لويس السادس عشر مع استقلال أميركا، حباً فيها أم كرهاً في بريطانيا“. سنضحك والسيدة التي تفرك بطاقة المواصلات تُشاركنا التندر بأفكار الجدّة وستقول: ”الانزال النورمندي بمثابة آخر يد من السماء لهذه البلاد“. ”ماتيلد“ لا ترى دافعاً لشرح تهكم جدتها. كانت بجاحة عيني تشرح أن الفضل لأميركا وهي لا ترى فضلاً لأحد سوى عمّها ”إيقريك“. سأعرف في مستقبل الطريق السريع ـ داخل الباص ـ أن ”إيقريك“ لا يُؤمن بالحقيقة بقدر ما يتتبع أشباهها وأنصافها، وهذا ما سيرتكز عليه كلامها عندما تقول: ”السياسة تواطؤ مع الخدع“. لن أترك فكرتها دون تعليق، فعندها سأقول: ”كأنما تغيير القناعات هو جوهر اللعبة“.
سيصل الباص ويخفف من رعشة يد الستينية التي ستسبقنا في الصعود ساحبة بطاقتها على آلة الحافلة في ثقة المتريث وتتخذ مقعدها، بينما ”ماتيلد“ ستقع في مأزق النسيان حين تشي عيناها بحرج يتدفق من خديها. ستنسى محفظتها بما فيها من تذاكر المواصلات ومصروفها اليومي؛ وهنا ستتسع فرصة الرجل. سأمدّ لها ورقة خمسين يورو تقضي بها التزاماتها. لم يكن الوقت كافياً لتعتذر أو لتعود إلى البيت. ستُواعدني أمام محل اللحوم. لن نتحدث عن إيطاليا أو عن ”جزاء سِنمار“ الذي لقيه ”لويس السادس عشر“ حين أدّى جميلاً لأميركا وترده عرفاناً إلى فرنسا بعد قرن ونصف على إعدامه. لن نتحدث عن غسيل الملابس المقدس يوم الأحد كما اتفقنا. ستعيد لي المبلغ فقط.
”ماتيلد“ ـ عندما تتحدث عن دراستها ـ ستقول: ”إيقريك سألني أن أتجنب إدعاء المعرفة... وكيف؟!“. سيُجيبها موضحاً لها: ”ماذا يعني أن تُنجز بحثاً، وقبل نقطة التوقف تُسجل المزلق القاتل عندما تكتب (Donc)، - إذن أو خِتاماً - ؛ كأنها الحسم، أو خلاصة العالم قبل القيامة بطرفة عين؟!“، ستُكمل حديث عمّها بدقة الأمين: ”... إن هذا يفضح ضآلتك أمام جوهر المعرفة... لا يُمكن أن تحدّ من العلم بكلمة (إذن) وكأنّك وضعت يدك على دوَار الكون وأعلنت سرّه في نهاية بحثك!“. سأُطلعها على أنني أنحدر من ثقافة الإجابة الواحدة. في الحقيقة لن أخبرها. هي ستعرف.
في ”القصر الكبير“ حيث العروض العظيمة لكبار فناني العالم سيتم تدشين كتاب عمّها الجديد في الفنون الإسلامية الذي رعته ”جمعية المتاحف الوطنية الفرنسية“. لن يكون وقوفها أقرب لاستاند الكلمة منه إليّ. حقيبتها الصغيرة كبنفسج تكاد تشعرني بأنني أستحق هذه الدعوة من جهة القلب لا من جهة المجاملة. سأُعاتبها على التقصير في وصف ”إيقريك“ - الفاتن جداً - وإن كان يقرض أواخر السبعينات من العمر الجميل. سيقول في كلمته أنه لم يُقدم شيئاً في إبداعات العمارة الإسلامية. ستنظر نحوي ”ماتيلد“ في ما يُشبه الوشاية بروح التواضع عند المؤلف، وستهمس لي لاحقاً: ”هل صدقتني؟“، رغم أني لن أُخبرها باندهاشي من ملكة العم الفكرية والجمالية، بل افتناني بشخصه؛ لكنها ستسأل: ”هل صدقتني؟“.
في وقت سابق، وتحديداً عند ظهر يوم ذلك الاحتفاء، سيأتي أنها ضمتني إلى غداء خاص مع ”إيقريك“ الوسيم. بعد هذا لن تُصبح قصاصات مجلات عروض الأزياء الرجالية أثيرة ومؤججة لمزاحي مع مترجم المكتب ”بن ناجي“ في أن نكون عارضي أزياء وإيطاليين تحديداً إمعاناً في الحلم. العم الفاتن والثمانيني تقريباً سيكون محك تلك القصاصات اللامعة بل فشلها في القلب الخافت. على الغداء سيتحدث باقتضاب عن الوطنيين الفرنسيين الذين آثروا عدم المقاومة إبان الحرب العالمية الثانية، مقابل ألا تُمس متاحف باريس وآثارها، سينظر إليّ حين يُعزز كلامه بقوله: ”باريس مثل العار أيها العربي“. ”ماتيلد“ تتمسك بالحياد في كل اكتشاف جديد عن مرجعيتي. سأُخبرها أن لا علاقة للعار حين تعرف أن فتاة من بلادي تُقيم مع شاب برتغالي في الحيّ اللاتيني. ”ماتيلد“ كانت تضع السكين والشوكة بطريقة تكشف الرضا عن طبق المدخل الذي اخترته مثلها ويتكون من كبد البط وفي جواره قطعة من التوست وقليل من المربى. في انتظار الطبق الرئيس هي ستستمع لسرد عمها الحليم في الحديث عن حضارة الأندلس، ولن يتحدث عن ”زرياب“ مؤسس تتابع الأطباق على المائدة، ولاحقاً ستحترم ”ماتيلد“ أن له الفضل في خُلق الأكل وانضباط أناقة المرأة. أنا سأُفتش عن عينيها وهي تجد في امتدادي ازدهاراً ما. سأتذكر ”بُواتيه“ - جنوب باريس - المدينة التي شهدت بلاط الشهداء. هناك قبر آخر مسلم حارب باسم العرب في أوروبا. مدافن معلومة الأسماء لم يمسّها عبث. هذا شيء من البكائيات. ستعرف ”ماتيلد“ يوماً حصارنا للتاريخ وانتظارنا لصحوة البطولات. سأتحدث عن حرصنا على التسامح وستُثني هي على دماثة الروح عند الخيّاط ”محمد الكردي“ المعروف بجواره الحسن لمحل حلويات ”بروج“. ففي وقت سابق شرح لها أنّ الشعوب المستضعفة تحتفظ بلغتها وغنائها وحبّها لكنها لا يُمكن أن تتمسك بالحقد، فالأرض الحقيقية تساعد على ذلك. كان العمّ يُحرك يديه كما لو أنّه المتحدث. يقدم معونة بالإشارة ولن يذكر شيئاً عن محاكم التفتيش و”الموركسيين“ الذين استحضرتهم ليس لأنهم تخلصوا من الحقد وحسب؛ بل وقد تخلص منهم المكان ابتداءً. كانت ليده - إيقريك - حركات دالّة وصريحة تُذكرني بصفاء النهار. نظيفة كأنها تصون الجميع. سأجلس في حماس أقل كيلا يلحظ تحفزي إلى المجادلة. ستصنع ”ماتيلد“ الكثير من الحاجة داخلي. بل ستبعث سنوات الخسارة.
سأكشف لاحقاً أن السيدة الستينية بقيت تبتسم وهي في مقعدها المريح داخل الباص، وأن ”ماتيلد“ بعد شراء تذكرة الباص ستتجنب الحرج الفاضل في أناملها وهي تقبض بقية الخمسين يورو من السائق وتتردد في وضعها داخل حقيبة بدت محشوة بالكتب أكثر منها بأشياء صغيرة ورفيقة لأي فتاة. لن أنظر لعينيها الواثبتين بشكر مكرر. كم أنا في ظمأ على هذا الامتنان الأزرق. له لمعة الرغبة والمنهوبة بضابط الصبر. سأحتاط من التماس، فالباص يكتظ بالركاب في المؤخرة وحركة الناس تزيد صباحاً. كما أن السيدة الستينية كعادتها ستختار المقعد الأمامي وكأنه خُصص لها تماماً. علينا مواصلة الذهاب حتى نُقارب ساحة ”إن?اليد“. هناك سأصعد معها ”المترو“ في اتجاهات مختلفة أهمها قطع طريق ”القديس جرمان“ الممتد من ”مجلس النواب“ وحتى ”معهد العالم العربي“. ”ماتيلد“ ستزور المعهد بعد أيام لتقتني إصدارات المعهد الموسيقية وخاصة (CD) ”نحيب الصحراء“ ـ أغانٍ من أفريقيا. وحتى يصح الوقت معها سأختلق تحت علمها الحميم ارتباطاً بموعد يتحدد مكانه قرب النُزل الذي ستتناول الغداء فيه. الموعد الذي ابتكرته أنا سأتحلل منه فور أن تدعوني للتعرف على عمّها في فندق ”أُديون“ - ذات الاسم تحمله محطة ”المترو“ التي خرجنا منها -. لن أخبرها مباشرة بطالبة من بلادي وهي تفزع من قبلة فاجأها بها صديقها الطويل من بين الجموع التي خرجت من ذات ”المترو“ حيث كانت تنتطره بالخارج وأنا خلف زجاج مقهى ”ملتقى أُديون“ كعادتي في صلاة الترقب، وسأُلاحظ خوفها من أن يوجد متطفل شاهد التهام كرمتها حتى طواها العاشق فيه ثم دخلا في الليل بعيداً عن نظري. في جميع الأحوال لن يُغير من قوامها شيئاً. فتاة من بلاد عربية وشاب يهودي من البرتغال، وعبر التاريخ أجدادهما نالوا الطرد من شبه جزيرة أيبيريا؛ والآن بوسعهما النيل من تعايش ما.
سأسير إلى جوار ”ماتيلد“ غير مرتبط بأي شيء عدا الشغف. ذلك العشب الذي لن يدوم لأكثر من فصل. وربما لن نتقابل مثل الغجر بعدها. في لمحة خاطفة سأقصّ على نفسي حكاية المذيع العربي المخضرم حين جاء في نهاية الستينات إلى باريس، قال لي: ”أواعد الفتاة ولا تأتي. لا أغضب. من يوم غد أواعد أخرى مجدداً، ثم لا تأتي. كنت أعتقد أنني لن أتوقف ذات يوم؛ بل سأستمر مثل العمر الذي هرب...“. وهذا المخضرم مثل جرح مكثف، أو بلاد وحيدة، سيقول لي: ”الحياة هي الترك، الحياة إدراك متأخر...“.
اليوم المتفق عليه لرد المبلغ سيكون الأحد، ستقف الفتاة أمام محل اللحوم، وأنا سأشرف على قوامها العذب عندما يلوب في حيرة، كأنها تندم. ستنظر إلى شاشة هاتفها المحمول وتقرأ الساعة. سوف تتفحص الشارع الخالي من الحركة عدا جوار ”مترو كومّيرس“ حيث المطاعم والمقهى. هناك شحاذ يعلق كأساً ورقياً في سنّارة يُدليها أمام مارة سيعبرون فرادى. ”ماتيلد“ ستشرح لنفسها أسباباً كثيرة عن عدم مجيئي. لا شك أنها ستتساءل إن كنت واعدتها العاشرة صباحاً أم لا. بائعو اللحوم والحلاقون لا يغلقون محلاتهم في ذلك اليوم. ستتردد في سؤال رجل ”سِسليا“ ولكن لا بد ستفعل. ستقع في فخ ثرثراته لو أخبرته أنني عربي. سيسرد لها حكايات أجداده وأنّ أحدهم بدلاً من الهجرة إلى أميركا ذهب إلى الشرق ولم يعد لكن لم يفقر على أية حال. لن تغفر خطأها عندما نسيت حقيبتها، وعندما وافقت على أخذ المال مني ونسيت أخذ رقم هاتفي. وعندما أوصلتها قبل البارحة حتى البناية التي تسكنها وسَلّمت بممازحتي لها حين رأت أن تجلب لي الخمسين يورو من شقتها، لكن سأقول لها وهي ستُذعن: ”إنني أحتاج سبباً وجيهاً لأراك صباح الأحد أمام متجر اللحوم“.
ستدخل في نقاش مع صاحب المحل الذي يُقاطعها بالحديث عن الشهامة لدى العرب. هي - عني - ستقول لنفسها: ”هو لا يحتاج موقفاً شهماً ليُعبر لي عن شخصه“.
لن أنزل لهذا الشارع، ولن أُفوت مراقبة زيارتها له التي لن تنقطع طيلة أسبوعين، عند كل صباح قبل الجامعة، وقبل الغروب، وفي بداية الأمر ستأخذ وقتاً أطول في الانتظار للتلفت أو إبداء الأسف لصاحب المتجر الذي لا يجد غضاضة من إعادة قصصه، وهي تُبرر صبرها عليه بما قد تأمل من جديد عني.
العمّ ”إيقريك“ - قبل يومين تقريباً - على الغداء سيقول: ”في الثلاثين من عمري وحتى قرابة الخمسين، أي فتاة تقترب مني لتسألني عن الساعة أعلم أنها لا تُريد معرفة الوقت بل تُريد أن تتعرف عليّ، أمّا الآن فأي فتاة تسألني عن الساعة أعرف جيداً أنّها تحتاج الى معرفة الوقت بالفعل وأنّ لديها حتماً موعداً مع شخص آخر“. سأضحك ناظراً أولاً لندفة الحياة في وجه ”ماتيلد“ ثم لوجهه المريح وسأقول: ”كان عليك ألاّ تحمل ساعة طيلة هذا المشوار“. سيردّ مثل نَفَس حديقة: ”بل كان عليّ ألاّ أكبر ومعي كل هذه القُبَل...“. ستُباشر الفتاة الايقاعَ بعمّها: ”لذلك ظاهرة الطول الزائد تلتصق بالنساء الكبيرات“. سنضحك بفخر على نباهة بهجة مائدتنا ”ماتيلد“.
وهي التي بعد حفل التوقيع، ستقترب أكثر لتسألني بعيداً عن روح التقصي ومحاذير الذوق العام: ”كم الساعة الآن؟!“. وأنا الذي سأتسع لظلها النائم عليّ بفعل إضاءة شارع ”مونتيْـن“، حتى يستبيح جذعي كاملاً، ليس لأنها ستبلغ طولي ـ متر وثمانين سنتمتراً ـ بفعل قبلة، ولكن لأن لها ذات اللهفة وأعمق، وأنا الذي سأُجيبها بارتباك أخّاذ لفتاة تنتصر لأنوثتها: ”لا أحمل ساعة، لكن لدي التحفز“. وهي التي لا تحيد عن حذافير عمّها من التعليمات ستُعلن مخاض الحياة بيننا، لا صرامة المعرفة عندما تختم كل المساحات بكلمة الحسم؛ إذ سترد بثقة الأمل لا بحدية المختبر: ”إذن...“، ولن ننتهي - بعدها - من محو المسافة حتى نستقل سيارة الأجرة في طريقنا إلى الحي الخامس عشر حيث نسكن في بنايتين يفصل بينهما شارع ”كومّيرس“؛ كما أدركتُ ولن أكشف تلك الملاحظة لها. بعد الحفل سنأكل وسنتحدث عن رامبو وعَدَن والنبي سليمان وجازان. سوف نخرج من المبنى بمحاذاة نصب القائد ”Charles de Gaulle“ وستذكر أنّ عمّها يُخالف الكثيرين الذين يرون أنّ هذا الرئيس ينحدر من عائلة عريقة بسبب كلمة ”De“ التي تتوسط اسمه وتدل على ”النبالة“. سأُعلق بما يُعزز التقدير: ”لكن الجميع يرونه أب الجمهورية الفرنسية الخامسة“. سنصل إلى أغلى شوارع العالم ”مونتيْـن“. لن نُغفل الحذر لأن أيدينا كادت تتشابك وتُكَوّن حلوى. إنّها العاشرة والنصف ليلاً. لا بد من الرجوع.
لن أنزل لهذا الشارع، ولن أتخلص من مراقبة بحثها الذي لم يتوقف نهائياً، ولم تبتسره بكلمة (إذن)، فهذه هي الحياة تتطلب تدرجاً لنُدركها قبل أن تُوافينا بالترك، وهنا القداسة للمحاولات في ما يُشبه إصرارَ عالمٍ على فكرة قدحت، ففي أول الأمر ستأتي مرتين يومياً وطيلة أسبوعين، ثم ستأتي لمرة واحدة عند المساء، وبعد ذلك لن تُواصل مرورها بشكل منتظم وإنما ستتقطع مواعيدها حتى تتفاوت وتنطفئ تماماً بعد شهر تقريباً، وهناك تحديداً سأعتاد ألاّ أحزن من التراجع، ولا على الندم الصغير، ولن تتألم هي كثيراً.
سأتذكر تغيير القناعات وسأتأكد أن لي قلباً يُشبه الاستديو الذي أسكنه. كان منزوياً ويخفي إشراقته عن المارين. وتلك الفتاة لن أراها نقطة فهي سطر طويل يستمر لأبعد من العمر، وأكثر صدقاً من القطارات.
باريس، بوينس آيرس
كانون اول 2013 - كانون ثاني 2014
* من سيرة ”رجل الشتاء“.