وجدت نفسي عائماً على سرير. لا أعرف من أين خرجت. ليس من عدم ولكن من سكينة لا حركة فيها ولا وقت. وجدت نفسي في ظلام شفيف. لم أكن نائماً ولكن مغمض العينين والعالم تحت أجفاني المطبقة جاء بسلاسة. كنت أخشى أن يتبدد ذلك ما إن أفتح عيني. لم يكن ينقصني أن أرى. كنت أسمع اصواتاً وأجيب على أصوات. كنت أرجوهم أن يفكوا الحذاء عني قليلاً. الحذاء الذي كان يلبس ساقيّ ويعصرهما. كان هذا يمنعني من أن أتنفس إذ أشعر أنني أختنق من ساقي. كانوا يصيحون بي أن رجليّ مكسورتان وأني بدون هذا الدرع سأعيد كسرهما. كنت أرجوهم أن يخففوا عنهما وكنت أنتظر أن يأتي أحد من الطلبة ويسحب السيخ من وسط الحذاء ويعكسه من أعلى الساق إلى القدم. بالفعل كان أحدهم يأتي وكنت أعرفه من صوته فأرخي له رجلي وأتركه يفكّ الحذاء وينزع السيخ. كنت بعد ذلك أخرج القدم فلا يبقى عليها سوى جورب رقيق. كان هذا الثقل ينزاح فأشعر بقدمي صغيرة للغاية بالقياس إلى ذلك الثقل. كانت أشبه بحبة بطاطا، وسرعان ما تزول متعة تحريرها إذ يبدو وكأنها لا تستحق ذلك الشعور بالثقل النازل عليها. كنت أشعر بتحررها ثم لا تترك لي خفتها المزرية اي شعور على الإطلاق، وشيئاً فشيئاً يغدو الأمر شبيهاً بالفكاهة. ويبدو لي أن هذين الجبلين اللذين أحاطا برجلي كان يضعان كل جهدهما في عصر حبة بطاطا. تزول فرحتي إذ إنني أنا أيضاً أخجل من منح كل مشاعري لشيء بهذا الصغر. كانوا يعودون إلى الصياح واستسلم هذه المرة لإعادة تكبيل قدمي، وما إن يحدث ذلك حتى يعود لي الشعور بأني أختنق منهما.
كانوا يؤنبونني: تريد أن تكسر قدميك... وكنت هذه المرة أشعر أنهم يضعون كثيراً من المنطق في مسألة لا تستحق.
إنها أصوات تأتيني وأنا أجيبها بصوتي. لا أفهم لماذا لا أرى الأشخاص بينما أرى جلياً قدميّ مصيّرتين في آلتهما. لم تكن بي حاجة إلى رؤية الناس فأنا أعرفهم من أصواتهم. الأصوات التي أعرفها تدلني عليهم. الصوت الذي يؤنبني كان صوت ابنتي، كان يوبخني كما لو كنت طفلاً. كنت معتداً بمنطقها لكنه أثار فيّ حاجة إلى أن أكون أيضاً في المستوى، وقلت لها إنها تتعب نفسها كثيراً في أمر صغير كهذا. لكني لم أستطع أن أستبعد إمكانية كسر قدميّ إذا خرجتا من درعهما. لم أجد حجة مناسبة لهذا الأمرـ لذا لم أتمم كلامي وبقي معلقاً وانسحبت. أتذكر أنهم كانوا موجودين في الظلمة الخفيفة لدرجة أنهم كادوا يظهرون فيها، لكنْ لم تكن هناك حاجة إلى هذا الظهور. كان يصلني أحياناً صوت لا أتوقعه وكنت أنتظر حتى يغدو لي واضحاً. كان غالباً ما يشبع كلماته ويتوقف تقريباً عند كل مقطع ويتابع مجراه المنخفض بوضوح، وحين يسكت يبقى مائلاً لجوابي الذي يأتي مسدداً، وأحياناً كثيرة ساخراً ومتعمداً الغرابة، كأن أقول إني أتآكل بشكل طبيعي وإني وضعت في بولي خيرة أفكاري. كان صوت ابنتي وحده الذي لا يغني أو يتحبب وهو يكلمني. والأصوات الأخرى كانت تتماوت قبل أن تصل إليّ كأنها هكذا تحاذر أن تخدشني. كنت أغمض عيني وأترك الكلام مع الصور التي يولدها يجري تحت أجفاني. كنت أشعر أن رحلة حصلت قبل أن أجد نفسي على سريري. لا أعرف أي شيء عنها. سكينة عظيمة نقلتني إلى هنا. كنت كمن يطفو فوقها. وجدت نفسي هكذا في عالم الأصوات وكنت أعيش تقريباً تحت أجفاني. كان هناك أيضاً ذلك الصوت الذي يسأل عن تاريخ العام وعن اسم رئيس الجمهورية وكنت أسمع نفسي أنطق تاريخ العام مغلوطاً وأتعجب من أنني أخطأت في شيء أعرفه جيداً وأحاذر أن أخطئ في اسم الرئيس، وفجأة كان عقلي يستحضر لي أسماء ثلاثة رؤساء مهملين تماماً في تاريخ الجمهورية. قلت ذلك بحماسة لأريك الطبيب الذي يستجوبني. فهمت أنه امتحان لعقلي وأريد أن أبهره. فجأة وقعت في مشكلة صغيرة. لقد ذهب عقلي إلى كاتب حرر رسائل لأحد هؤلاء الرؤساء وفاتني اسمه ولم أذكر سوى حاجبيه الكثيفين. لم أطل الوقوف عند المشكلة. لقد أخذتني صورة أخرى.
لا أعرف كم مضى علي وأنا في هذا السرير. بذلوا جهداً ليفهموني أنني في المستشفى. في البداية حسبت أنني في البيت لكن هناك من لقنني أنني في المستشفى. كرهت ذلك مع أني في البداية اطمأنيت إلى أنني في مكان ما. بعد ذلك تدافعوا ليبلغوني بأخباري التي حدثت في غفلة مني. وصلت إلى المستشفى وقد نزفت حصة كبيرة من دمي وضغطي خمسة. كان الذين صدموني حملوني إليها في سيارة إسعاف بعد أن قذفتني السيارة إلى واجهتها وفوجئوا بهذا الطائر الكبير مشبوحاً على الزجاج. ليس عندي ذاكرة للتواريخ لكني اجتهدت لأحفظ هذا التاريخ، 20 تموز. لا أعرف لماذا كنت تلك الليلة على الجسر، أخبروني أنني كنت ذاهباً إلى عشاء صديقة. كنت في الشهر الثاني بعد الحادث كما صرنا نسميه. أجروا لي أربع عمليات، اثنتين منها في رجلي، وكنت لذلك أشعر كلما حركتها بأن جلدي ضيق علي وبأني شبه مخيط في نصفي الأسفل. كانوا يحمدون شجاعتي وكنت لا استطيع أن أفهم أي شجاعة أبديتها خفية عني وكيف أبدت كليتاي وقلبي مقاومة بدون علمي، وكانوا يهنئونني لأني نجوت من موت كان بهذا القرب مني. لكنني استيقظت مرعوباً من فكرة أنه لا يزال أمامي.
كنت أسايرهم فأقول إني عدت من العالم الآخر وإني قد أكون هذه الصورة التي يرونها على التلفزيون. كانوا يضحكون وكنت أسايرهم فأضحك معهم لكني لم أكن قد قلت ذلك للضحك. كنت أخرجه من نفسي ليقتله الآخرون بضحكهم. لم أكن بالتأكيد أحسب نفسي صورة على التلفزيون. لم يكن هذا ما يخيفني بالضبط لكني لا أعرف ما يخيفني. كنت خائفاً كما لو أن السيارة التي صدمتني تركتني قشة في الريح. كنت خائفاً كأن هذه السيارة سلبتني كل أمانيّ. كنت خارجاً من غيبوبة دامت قرابة شهر. ليست غيبوبة كاملة بل تقطعت بصحوات كثيرة، لكني الآن لا أذكر شيئاً. لا بد أن معركة حدثت أثناء هذه الغيبوبة لأصل هكذا منهاراً، وليبدو لي أني فقدت شيئاً على الطريق. لا بد أن الصراع كان مكتوماً وسرياً بحيث فعل ما فعل بدون صوت. لقد كانت جريمة كاملة في داخلي ولم تترك أثراً. لا اعرف إذا كنت صادفت شيئاً أثناء ذلك. لقد خطوت خطوة بعد الموت لكن من يفعل ذلك لا يعود حياً تماماً. إنه عائد والعائدون ليسوا أشباحاً لكنهم يفكرون كأشباح. ماذا يفكر الشبح. لا أعرف، لكن يكفي أن يكون شبحاً لتكون فكرته مخيفة. يكفي أن يكون شبحاً ليفكر كميت. أو على الأقل ليكون ميتاً أو منذوراً لموت في صدر كل فكرة. لقد صادفت أسراراً لكن الخوف أن لا تكون هناك أسرار على الإطلاق، وأن لا يكون السر سوى الحطام المبعثر للحقيقة. مع ذلك تستمر الأسرار تخيفنا. إننا نشعر بها ولكننا لا نفهمها. إنها موجودة كلغة أخرى يعرفها جسدنا، تتكلم بها أعضاؤنا طوال الوقت وتحملها أعصابنا التي تتلقى طوال الوقت الإشارات. لكننا لا نعرفها. أحياناً تصلنا خلاصاتها.
تعب من شيء. قرار مفاجئ بالسفر. قرارات بالبعد أو الانفصال أو حتى الانتحار. لكننا نسمع ونذعن ولا نعرف المداولات الداخلية التي سبقت القرار. إننا نتكلم لغتين في نفس الوقت. أحياناً هناك تحت الكلام الذي نقوله ببساطة معنى لا نفهمه. أحياناً يخرج على لساننا كلام ليس لنا. أليس ما أقوله الآن جنونياً، لكنْ من يعرف حتى ما هو الجنون؟ يمكن أن يكون سيطرة الكلام الآخر. أتذكر تلك الفتاة شبه المجنونة التي كانت تتكلم عن نذير في عينها اليسرى. عن صراع بين عينيها اليسرى واليمنى. كان هذا الكلام حينها جنونياً. لكني الآن أفكر أنه لن يكون كذلك إذا كتبناه. لن يكون كذلك إلا إذا قلناه شفاهاً. ثمة رقابة على الكلام ليست على الكتابة، في الكتابة كلنا مجانين. إننا نتلقى فحسب هذه اللغة الأخرى. لا نتلقاها لكنها تندس في كلامنا. أفهم الآن لماذا تستمر الكتابات المقدسة مئات السنين مقروءة ومفهومة. إننا نقرأها على أنها لغتنا الأخرى، التي لا تحتاج إلى قواعد ولا إلى منطق.
إننا فقط نقرأها ونترك لمكان ما في نفوسنا أن يفهمها عنا، لكننا أحياناً نجدها في ثنايا لغتنا اليومية. إنها السبيل لتغدو لغتنا اليومية مخيفة لنا. ليغدو كل شيء مهما صغر، مهما كان عادياً، مشتملاً على سر. سيكون مرعباً أن نستشير عربة الخضار. سيكون مرعباً أن نستشير علاّقة المفاتيح. هناك أناس يستشيرون القدر بأول كلمة يقرأونها في كتاب. ماذا لو اعتبروا القدر موجوداً تحت كل كلمة. هل سيكون في مقدورهم أن يقرأوه بأمان. ولن يكون هو وحده ربما، فكل الكتب مسكونة بالأسرار. هناك من يرون أن الحذاء المقلوب دعوة للشر. ماذا لو كانت كل الأحذية تحمل الدعوة نفسها. هل سيكون في وسعنا أن نلبس أو نأكل أو ننتقل بأمان. هل سيكون في وسعنا أن نتابع حياة كل يوم ما دام كل شيء يحمل إلينا رسائل من القدر. هناك روايات مبنية على ذلك تجد قراء كثيرين. إنا نتوجس من أن السر يختفي تحت قشة. من أن الآلهة والأقدار تدس كل كلامها في أقل الأشياء أهمية. يمكن أن أكون عدت من العالم الآخر مغموراً بالأسرار. أن تكلمني هذه طوال الوقت. أن أكون باستمرار على نقطة البداية وأن أستمر في التفكير من اللحظة نفسها، لحظة الصدمة، وأن يكون كل كلامي، بدون أن أنتجه من لحظة الانفصال، لحظ التخطي، لحظة العودة إلى ما وراء الموت. أن تكون كل أفكاري قادمة مما وراء الموت.
كنت اثر الحادث قريباً جداً من الموت، ولما خرجت منه لم أجد نفسي أبعد بكثير. ففي سني (السادسة والستين) لسنا بعيدين جداً عن موتنا، منذ تلك اللحظة وأنا يردني كل شيء إلى الموت. صرت أتضايق من الكتب لأنها في الغالب كتب أموات، ولأن الأدب هو غالباً أدب أموات، ولأن التاريخ بكامله تاريخ اموات. أتذكر اصرار بورسنار على أن تعيش موتها ولا أجد في نفسي هذه الشجاعة، إذ يصعب علي أن أعتبر الموت عنصراً شخصياً وأن أتعامل مع موتي كما أتعامل مع حياتي. إنه بالنسبة لي اغتيال وإن كان مصدره خارجياً. . إنه بداية السر الذي قد لا يكون موجوداً على الإطلاق، وكم يخيف هذا. أن لا يكون أمامنا شيء. لكني قادر على الكتابة وهذا بالنسبة لي محيّر. قادر على الكتابة وهي الآن بقية من ميراث الحياة المتروك لي. علي أن أشكر لهذا السبب. أن أشكر من؟ قد تكون الكينونة، قد تكون أي شيء. إني أرفع شكري.
حينما توفي والدي وأيضاً بعد حادث قتله على الفور، تجمع الناس عندنا وقضينا الليلة ساهرين. كان ذلك في بيت في الجوار عند الفجر. أردت أن أرى أبي المسجّى فانسحبت وصعدت إلى الحجرة التي كان مسجّى فيها. كان مغطى بشرشف فرفعته عن وجهه ورأيته قد اختفى لونه وصار شمعياً ورأيت عينيه وقد تحجرتا وصارتا زجاجيتين. لم يكن هذا وجهه السمح الخجول في العادة. لقد لبسه الموت وأحاله إلى دمية. غطيته بسرعة وأسرعت في الخروج. كان هذا فيما بعد مصدر تأنيب ذاتي. صعدت لأودعه وأقبله وها أنا أفر منه. بعد الوفاة كنت محاطاً دائماً بالناس. كانوا شهوداً على الابن الفاقد الذي صرته. لم أكن قادراً على الحزن في وجود شهود بهذا العدد. كان علي مع ذلك أن أكون حزيناً. يوم التشييع لم أجد دموعاً. قال أحدهم: احترقت دمعته. لم يقل بردت. كانوا يردّون فقدان الدموع إلى حزن أعظم افترس الدموع وافترس مظاهر الحزن كلها. لم أجد دموعاً إلا حين وقفت فوق القبر الذي سجّوه فيه وهم يهيلون التراب عليه. تذكرت عبارات من مرتفعات ويذرنغ حين أخذ هيتكليف في حزنه يتحدى الحبيبة الميتة. صرخت بها وانهالت دموعي. لقد قدمت للجمع ما أراده مني. بعد ذلك لزمت صمتاً ثقيلاً أمام المعزين الذين توافدوا على البيت طوال الأسبوع، ثم انفضوا جميعاً وتركوني وحدي. تركوني في حيرتي تجاه حدث لم يتح لي الوقت لأستوعبه. كان أمامي العمر كله لأستطيع أن استبطنه. كان أمامي العمر كله لأتمثله في حياتي. كنت وحيداً لكن الرجل الذي سألني عما إذا كنت أستعد لامتحاناتي أجبته بغيظ أنْ بلى، قبل أن يحملوا إلي بعد ساعة قبعته وساعته في إشعار لي بأنه انتهى. هذا الرجل الذي كان بالنسبة لي مفارقاً بصوته وكلامه ووجهه، والذي كان لهذا السبب في مصاف الآلهة، لم أنجح في أن أتواصل معه كرجل مع رجل. هذا الإله المكسور كان علي أن أعيد نصبه في داخلي. أن أجد سياقا لهذه الصورة التي كانت باستمرار مبثوثة إلى الأعلى والتي كانت تهرب من ملاحظتي. كان علي أن أستدرج هذه الأنا العليا إلى يومياتي ولم يكن هذا ليتم إلا بقدر من التحطيم والغيظ الذي أجبت به أبي عن سؤاله الأخير. ما كان ليتم إلا بتحويل إله إلى مادة يومية، وشيء كهذا يحتاج إلى وقت وإلى معركة. لكني صرت وحدي وقد انفض عني الناس وعلي أن أدبر لقاءات منفردة مع هذا الإله المكسور. كان الحزن يعني أن نتلاقى فلا يعود في عليائه وأعطيه أنا هذه المرة. أمنحه من نفسي أياماً أخرى في الحياة، أو حياة أخرى. بالفعل كنت أنتظر أن أنفرد ليلاً وأدخل إلى غرفتي وأغلق بابي علي وما كنت أحتاج إلى شمع ليتم اللقاء.
على سريري كنت أجلس وأستحضره وشيئاً فشيئاً أغرق في البكاء. كان هذا يتم بطلاقة لكنني كنت أثناء ذلك أبني ألمي. كنت أبني حزني وأعقد مع إلهي المكسور صلة جديدة. لكني ما كنت أجد الكثير في الداخل. كان في ذلك نوع من التصنيم. كنت أذكر لفتة أو حركة أو كلمة له وأنطلق منها لأستدر دموعي. ثم رأيتني أكتب ما يخطر لي. بالكتابة وحدها كنت أجعل هذا الحزن واضحاً وبالكتابة كنت أفرزه من بين الركام وأعطيه سياقاً أو مبنى. الكتابة اليوم لا تزال ممكنة وانا ألجأ إليها اليوم لأفرز من بين هواماتي شيئاً واضحاً.
على الغداء كنا خمسة. كنت وصلت متأخراً ووجدتهم يأكلون. كان في صحون معظمهم قطع مخضّرة والطعام نادراً ما يكون أخضر. قالوا لي إنها من السمك وطلبتها وجلست أنتظر صحني وكأسي. تأخروا كثيراً وقال أحدهم إن هذه المطاعم تنفق ملايين على ديكورات وأشياء أخرى لكنها تبخل بتشغيل عاملين أو ثلاثةً زيادة لتوفر أجورهم، تذكرت نظرية القيمة الفائضة كما شرحها ماركس. قال لي ح. د. انه شاهد فيلم "بيوتيفول" وطلب ح. ص. تلخيصاً للفيلم فبدأت بالقول إن بطله أُبلغ من طبيبة بأن ما تبقى له في الحياة شهران. قال ح. ص. إذ وجد واحد بقي له في الحياة شهران فهل تنصحه بمشاهدة الفيلم. لم أجد جواباً واستهجنت السؤال. لكن ح. ص. رجع وقال إن ر. أ. التي نعرفها كلنا قد أبلغها الطبيب بأن لها في الحياة شهرين بعد. كنا نعرف جميعنا ر. أ. لذا لم يصل الخبر إلينا. لقد دفعناه عنا، ولتكون الحياة ممكنة بعده انتقلنا إلى حديث آخر. كانت السياسة هي المهرب الاعتيادي. انتبهوا إلى أن الغارسون تأخر عن تلبيتي فنادوه فجاء لكنه هو الآخر لم يلب. كنا صرنا في منتصف الوقت والرفاق يتمهلون في طعامهم ليتوفر لي أن أشاركهم المائدة. كان هذا مدعاة لحديث عن انهيار الخدمات في بيروت.
"بالماضي كانت الخدمة فن صناعة. أوتيلاتنا ومطاعمنا كانت أحسن من باريس. هلق هالامتياز سقط، ما بعرف شو بقيلنا". كنا جميعاً نشعر بنهاية الامتياز اللبناني "ما عاد فينا نبيع العرب ديمقراطية وحريات، يمكن اللي بقي أكثر شي هو احترام الحياة الشخصية، بهيذي بنضل متميزين". استأثر موضوع الحرية الشخصية بالكلام وصار كل واحد يروي قصة عما يتعرض له المفطرون أو الفتيات الخارجات وحدهن مع سيجارة مشتعلة في بلدان عربية أخرى. تجمع كمّ من القصص ومن الواضح أننا نجحنا بالفرار من قصة ر. أ. لكن واحداً منا قال وهو يبلع ريقه: "مسكينة"، وفهم الجميع من هي "المسكينة" وبدا واضحاً أن استراتيجية الفرار بالتراجع لم تنجح تماماً. كان الشهران الباقيان لها هما سعر الحياة. كان لكل واحد أن يتخيل شهريه الخاصين. أما أنا فكنت أسرعهم إلى الفرار. التقطت أول موضوع مختلف وشاركت فيه محاولاً هكذا أن أضمن له درجة من الاستمرار، لكن التنقل بين موضوعات عدة كان يعني مزيداً من الهرب. حاولت أن أضيف شيئاً من المزاح إلى الحديث الأمر الذي كان مضموناً، لكن أحداً لم ينتبه إلى مزاحي، ولم يتسلمه أحد مني.
كان لا بد من أن أفكر بـ ر. أ. فأنا أعرف أن المواضيع التي أُبعدها تنتظر أقل غشاوة للعودة وعودتها في الغالب أكثر إقلاقاً. فكرت بـ ر. أ. التي تزاملت معها زمناً، فكرت بها وهي في سجن هذين الشهرين. لا بد أن تشعر فيهما بالاختناق كل ساعة. ستنهار كل يوم ولن يكون في وسعها أن تتحرك هي التي "تحوص" باستمرار ولا تستطيع أن تثبت في مكان. كانت ر. أ. مستعجلة دائماً. كانت أحاديثها ملأى بالتنقلات. عندما سافرت إلى لندن كنت أقابلها كلما عادت إلى لبنان وكان انطباعي أنها هكذا تحرق الحياة، تحرق المراحل. هذا الذي جعلها تختصر حياتها وتصل بسرعة إلى هذين الشهرين الملعونين. أليس غريباً أن نفكر هكذا بالاقتصاد. بالحياة. بطرق أجدى لمضافتها أو مطّها. بطرق تنجينا من هذين الشهرين.
ماذا ستفعل ر. أ. في شهريها الأخيرين؟ هل سيكون حالها حال الرجل الذي بعد أن قرر الانتحار، أمضى أسبوعه الأخير وهو يبذر ماله على ما تشتهيه نفسه؟ هل تستطيع أن تتمهما؟ هل تقدر على احتمالهما وهل سيكون كل صباح جنازاً جديداً وحداداً على نفسها؟ هل تمضيهما في الصلاة لكل شجرة وكل مطلع فجر وكل رأس جبل، الصلاة لكل ما يخيفها ويعكّرها وكل ما يحمل إمارة لا تفهمها، أو تلحظه في وقت لا يتوفر فيه الفهم؟ قد يكون أي شيء فنحن لا نعرف متى يخرج أهون الأشياء عن سره ومتى تتلبس الأشياء العادية أسرار كبيرة، متى يدب القدر في هيكل بسيط ومتى تخاطبنا العناية من رأس شجرة أو قنطرة بيت، ومتى يختبئ الموت خلف حائط متداع، ومتى يمور النهار بالأسرار. هل سترى عبرهما (الشهرين) الله وهل سيكون مخيفاً أم معزياً؟ كل هذه إسقاطات ليس إلا.
هذان الشهران أمامهما رواية دارجة لأسطورة سيزيف، حين تضيق الحياة وتطبق من جميع الجهات. هذان الشهران هما غرفة المستشفى، هما سرير المرض المنزلي، هما الزحار والقيء وذهاب للعقل وتلف الأعصاب والركبتين، هما الانزواء في الفراش أو على كرسي بدواليب. هما يأس الناس منك ويأسك من نفسك. أنظر إلى جسدي الذي خرج من معاناة شهرين أيضاً فلا أجد أثراً للحادث. أعتد به. لا أعرف لمن أوجه شكري على هذه العطية. هل هو الحبل الجينالوجي وأبي وأمي اللذان أعطياني جسديهما يواصلان الحياة فيّ. أكاد أصل هكذا إلى ديانة أرواحية فأصلي لآبائي. أكاد أصل بسهولة إلى أي ديانة. إنها حاجة لا أطيق الصبر عليها. أفكر في البهائية والدروز والعلويين، لقد ربوا إلههم وشاهدوه يكبر تحت أعينهم ورأوه يختفي أحياناً فلم يؤاخذوه وظل لهم. أفكر أحياناً بداهش. لقد شهد كثيرون أنه تجول بعدة شخصيات وأحيى عصافير ميتة. المشكلة في الكلام، لعنة الله على هذه النزعة الأدبية. إنهم لا يتكلمون كآلهة. يتكلمون بأساليب وقتهم وأحياناً يتكلمونها بركاكة وتقليد. مع ذلك أحاول أن أراجع. أقول إن الأدب ليس من شأن الآلهة لأن الحقيقة لا تقال أدباً. الأدب لا يخلو من تزوير وانحراف. الحقيقة ينبغي أن تقال بأبسط لغة. بلغة اليوم. ينبغي أن تكون مفهومة لأصغر العقول. إنها ليست فناً، فهي قبل كل شيء واقع. أفكر هكذا وأنا خائف. أقول إن داهش كتب أدباً فعلا وكان جبران خليل جبران مثاله الأدبي، لكنه لم يلحق به. كتب بركاكة جبرانيه ولم يخف طموحه الأدبي. لقد اشاد المؤمنون به، بسرعته الإعجازية، لكن السرعة ليست شيئاً في حساب الأدب. لو كانت معدودة بين المعجزات لكان سيمنون إلهاً.
لست أحاول أن أصعّب المسألة. لا أجادل كثيراً، لو مالت نفسي إلى إيمان من أي نوع فلن أمانع. أي إيمان ترضى به نفسي سأرميها عليه. أريدها فقط أن تجده كافياً. أريد فقط أن تحبه. بعض الجمل في التراث الديني أجدها رائعة. لو كان التراث كله مثلها لرضيت. نشأت والإله رفيقي. كان معي يأكل ويشرب وينام. كنت تحفته التي يعتد بها. كان طاقتي وفكري وعاطفتي. ثم كان أن بدأ الجدل فابتعدت. صار علي أن أجده، أن أخترعه بحججي وبراهيني. أن أوجده بفكري. أن أكون دليلاً عليه وشاهداً. ليس مهماً ما انتهى إليه الجدل. المهم أننا انفصلنا: صرت في ناحية وإلهي في ناحية. لم يعد في وسعي أن أؤمن. لم أطق أن أكون قيّماً على إلهي وأن يستمد وجوده مني. هكذا انتهى زمن البراءة. تصحرت، لم ألحد لكني لم أستطع أن أفهم كيف يكون الله قانوناً أو تفاعلات كيميائية أو مصنعاً ضخماً أو مؤرخاً لأصل الأنواع. لم أستطع أن أستعيد إله طفولتي. لقد صرت مع الوقت كارهاً لنفسي ولم أسع إلى طمأنتها. لو أحببتها قليلاً لما دخلت في هذا الجدل، فكرت أن الإلحاد والإيمان ليسا من شأن البشر. إنها أحوال نفسية، كارهو أنفسهم يلحدون لا يريدون لها عودة، محبو أنفسهم يؤمنون. أفكر أحياناً أن المسألة هي في صلتي بنفسي فحسب.
كانت أمي في الثمانين ولم يتجعد وجهها ولا انتفخت عروقها. لم تكن في صباها جميلة لكنها صارت عجوزا لطيفة. في ثمانيناتها حين كانت تتأخر عن الصلاة، وطالما تأخرت، كانت تقول ضاحكة "أوعك يكون ما في شي"، وحين كسرت حوضها بعد أن غرقت في خرف نسيت معه اسمها وأولادها، وقفت على رأسها وهي في السرير غائبة عن الوعي وفكرت طويلاً في كلمتها: "أوعك يكون ما في شي". تراءى لي وأنا أفكر أن الشيء قد يكون في حوضها المكسور والنباريش الممدودة إلى أنفها وفمها. كانت غائبة عن الوعي تماماً وتخيلت أنها في حالها هذه رأت الشيء وتحققت منه. سألتها بصوت عال إذا كانت رأته فلم تسمع، بقيت يدها في يدي وابتسمت ابتسامة باهتة.
خرجت أتجول في المدينة التي لا أعرفها. فقد تعهدت أختي المتزوجة في إربد، وهي مدينة في الأردن، أمي بعد أن تضعضع رشدها. كانت تعيش معي لكني استصعبت الأمر بعد أن انفصلت عن زوجتي وغادرت منزلي مع ابني وسلمتها لأختي التي تعهدتها حتى وفاتها. لم أكن مرتاحاً وأنا أمشي، فالسؤال الذي ألقيته مازحاً على أمي المحتضرة تحول إلى عقدة في داخلي، إذ ليس سهلاً أن نلقي أسئلة كهذه على امرأة محتضرة. كنت أهيم كما لو كنت أبحث عن جواب، فالسؤال الذي مازحت به أمي بات سؤالاً صعباً علي، صعباً وملتهباً في آن معاً. جاريت أختي التي كانت تروي طرائف عن خرف والدتي ظلت ترويها بعد وفاتها بدون حرج. لقد تسلّت بنوادر والدتها دون تأنيب، أما أنا الذي فاتني أن أشهد وفاة والدتي ولم أسهر عليها في خرفها فلم أتسل بقصص أختي، بل أحسست بالرعب حين أخبرتني أنها كانت تأكل باستمرار لأنها تنسى أنها أكلت. كأن هذا الأكل الذي بلا هدف كان قصاصاً على إهمالها. في ذلك اليوم الذي خرجت فيه أتجول قطعت بضعة شوارع ومررت بأكثر من مسجد ثم رأيت باباً مشقوقاً وشجرة ملتفة قائمة وسط الفناء وطفلة شقراء زرقاء العينين. شعرت أنْ هنا الجواب على السؤال الذي طرحته على والدتي لكني لم أفهمه... كنت أجد ما يلبيني في منظر طبيعي: الأمواج المحصورة التي تتكسر على الصخور وتنشر زبدها فوق الماء الذي يرتفع. كنت أحس أن الماء يتنفس وأن هذا جواب لا يقوله، كذلك أشعر أمام لوحة دفن الكونت اورغاز لغريكو مثلاً بأن هناك جواباً لا تقوله. كنت أجد باستمرار أشياء تكفيني وتملك أجوبة لا تقولها. مثل هذا الجمال يجعلني أدمع.
هذا العصر قالت لي سميرة على التلفون إنها ستزور مع عائلتها قبر ابن عمها الشاب. قالت إن الموت سرق العائلة واحداً تلو الآخر، بما يشبه الخلسة، جميعهم انقصفوا بسهولة فائقة. نحس غالباً أن ثمن الحياة أكبر، أن ثمة فسحه للمقاومة. سميرة غالباً ما تروي أخباراً ممكنة تظن أن فيها مادة أدسم للكلام. شعرت بعدها برخص الحياة. عمت على هذه الفكرة ولم أستطع أن أنفك عنها. شريط من الصور المتحرك على شاشة التلفزيون شاهدته وأنا غارق في الشعور بأن العالم أجرد ولا وزن له. كنت أضجر عند كل فقرة لكني تابعت. شعرت فجأة بأن كل شخصيات الصور المتحركة تخرج من ذاكرتي. طالعت كثيراً من مجلاتها وها هي تخرج تقريباً من عيني. تركتها تخرج واخذت أوقظ غيرها، شخصيات القصص السحرية، عجائز وأميرات وأشخاص بحجم الإبهام وأولاد من خشب. بدأت من هنا وفكرت أن من الممكن أن أضيف شخصيات الروايات التي قرأتها والأشخاص الذين صادفتهم. هكذا لن تكون الحياة جرداء. ستكون ملأى. سأكون عشت حقاً وما عشته بقي مسجلاً، بقي مذكوراً، لم أتخلص منه على الطريق، لم أرمه ورائي. أبي أمي أخي وجدوا ولست فقط شاهداً على وجودهم. لقد وجدوا ولا يحتاجون إلى شهود. عاشوا، والحياة التي تقاسمناها معاً لا تزال. أفكر أحياناً أن مثل هذه الحيل الأدبية لا تنفع دائماً. لا نجد جملة واحدة تواجه معنى المصير. لا نجد جملة واحدة تمنحنا تعزية حقيقية. اللغة اختراع هائل نظن أن من يملكونه لهم الحق في أن لا يموتوا، ونظن أن من غير الممكن مع وجوده أن نموت. في اللحظة التي يتكلم فيها الإنسان تغدو حياته قادرة على البقاء ومن العسف اقتلاعه منها. لكن اللغة تقول الموت أيضاً، ربما لو أنها لم تقله لما كان وجد، ربما أن اللغة تخدعنا. إنها تفكر عنا وقد اخترعت من دوننا الموت.
أكتب الآن، أبحث عن جمل حية متيقناً أن الموت يسكن نصف اللغة. أريد الجمل القادرة على مضاعفة حياتي، الجمل القادرة على إطالتها، لكن المسألة مسألة حظ. قد أجد الجمل الميتة، قد أدخل الموت هكذا إلى حياتي، الموت يضيف اللغة، قد يكون أكثر من نصفها، قد نكون نستدعيه في حين أننا نظن العكس، لا توافق على التحايل، الكلام ينفع لذلك فحسب، من العبث أن نعتمد عليه لإبعاد المصير.
أرى سروة. إنها تشبه اسمها تماماً. قد يكون لها بسبب ذلك رسالة في هذا العالم. الأشجار تشبه أسماءها غالباً، النباتات أيضاً. ألا نجد في كلمة "تمر" النواة التي تملأه، ألا نجد أن في تسنين كلمة "بقدونس" تسنين للنبتة نفسها؟ حتى الحيوانات كذلك، أليس في كلمة "قط" عيناه النافرتان. أليست كلمة لبوة بلا لحية، فيما كلمة أسد ملتحية؟ البشر وحدهم لا يشبهون أسماءهم. في الواقع ليس للبشر أسماء. ما نظنه أسماءهم ليس سوى صفات. إنهم يتسمون بصفات ليست لهم في الغالب. أسماؤهم خادعة، ليست تشبههم بل تزورهم، حتى أن كلمة إنسان نفسها قد تناسب حصاناً أكثر مما تناسب شخصاً. إن لها مشاقته وضموره، لها حتى صهيله وعرفه.
قال ناظم إن علينا في الستين أن نبدأ بالتفكير جدياً في الانتحار. لا أعرف إذا كان وصل إلى الستين لكنه قالها بدون تشنج. قالها بدون أن يصر على أسنانه وبدون أن يختلج صوته وبدون أن تنقبض أساريره. قالها وظل يتطلع إلى الأفق. في مجرد قوله شجاعة، لا نقول شيئاً كهذا بدون أن نرتجف. لا نستطيع أن نغفل عن الطاقة السحرية للكلام. كلام كهذا قد يكون استدعاء. لكننا نقوله أحياناً بنوع من التعالي على الحياة. إنها عندئذ ليست أغلى ما نملكه، هناك ما هو أغلى منها. لا نعرف أن نسميه لكنه ببساطة "نحن"، نحن أغلى من حياتنا. نقولها بدون أن نسأل عما نكون بدونها. من السهل أن نقول إننا لن نكون شيئاً، لكن هناك من يعطي قيمة للموت لا يعطيها للحياة. هناك من يجد أن الحياة ذليلة وجبانة ودنيئة وفي أيدينا أن ننهيها. يرفعنا إياها نضع أنفسنا فوقها. تلك ارستقراطية وهي ككل ارستقراطية باطلة. إنها تدمير لكل قيمة ودعوة للمجان. رفض للحياة بما هي انهماك وانحياز للموت بما هو بطالة.
أثناء الحرب الأهلية اللبنانية كان هناك من يركضون أمام الأحداث، من يهربون منها، أولئك لم يخجلوا بأن يسموا أنفسهم جبناء. كانت الحياة الذليلة الجبانة أغلى عندهم من أي شيء آخر. أنا بعد أن أفشيت كل شيء أمام المحقق العسكري اللبناني لم أتخلص من خجلي إلا بعد سنوات، لكني قررت أن أهرب أمام الجنود الإسرائيليين إذا حاولوا تعذيبي. أردتهم أن يقتلوني فلا يطلقون هكذا كلابهم الجائعة عليّ.
قال ناظم إن علينا في الستين أن نفكر جدياً في الانتحار. قالها كأن المسألة أشبه بالخروج من فيلم شيّق. لا أعرف إذا كان لديه الانطباع بأنه يدير حياته ووحده يقرر متى يوقفها. لا شك أن كتاباً جيداً وناجحاً يؤلفه قد يعطيه هذا الانطباع. قد تمنحه صفقة مربحة الشعور بأنه يصنع حياته. قد يستنتج هذا من نكتة أو عبارة مأثورة أو شعار، فليس أسهل من أن يظن الواحد أنه صنع نفسه. من يكون صنعها إذاً إذا لم يكن هو؟ من يكون تكبد كل هذا الجهد لبناء تلك الشخصية إذا لم يكن هو؟ لقد عانى حقاً من نزلة رئوية وسقط الديسك على قدمه اليسرى وجعل جلوسه وقيامه مؤلماً. هذا بالتأكيد من تصاريف الحياة، فهو لم يصنع بالتأكيد لنفسه النزلة والديسك. الألم كل ألم، ليس من صنعه، إنه لا يريد لنفسه بالطبع اختناقاً رئوياً أو ألماً في الجنب. لو صار أعرج لما كان مسؤولاً عن عرجه. أما ثروته ونشاطه وذكاؤه فهي جميعاً له، أي أنه حازها بمقدرته وعمله. عندما أسمع نباح كلب في البعيد أتساءل إذا كان يغني هكذا أو يحسب نفسه يغني. أنا أعرف إذا كنت أنبح، لكن هذا ليس كافياً ليفرقني عن كلب. المهر يمشي ما إن تضعه أمه، أما الطفل فيحتاج إلى أشهر ليتعلم المشي. لن يدعي المهر أنه صنع حياته. لقد وجدها هكذا، أما الصبي فيستطيع الادعاء بأنه تعلم المشي بجهده الخاص وبمقدرته. لا أعرف ما هو الفرق. الرائع هو أن يقف الواحد على قدميه ما إن يلد. إذا تأخر في هذا فبأي حق يستطيع ان يدعي انه عالم وأنه يتعب ليتعلم أشياء يعرفها الآخرون بدون جهد. أفكر أحياناً أنني أسكن في هذا الجسد الذي لا تستطيع يقظتي الدائمة أن تعلمني كيف. من الممكن وأنا أبتسم أن يكون فيروس قد دخل في أمعائي. من الممكن أن يمرض طويلاً قبل أن ينذرني بألمه. هذه الحياة هي عربتي وأنا اسافر فيها. أسافر لكني لن أكون أنا سائقها. لن أكون العربة ولا السائق، إنهما مجهولان لي. فقط أعرف من الصباح أن النهار سيولي بعد وقت. سأنتظر ذلك بقدر من الضجر. في الأثناء تكون عربتي قد تقدمت خطوه وأنا عمت في ضجر لم ينقذني منه سوى النوم.
التاويون يفرقون بين من يموتون موتاً طبيعياً وبين من يكونون ضحية حادث أو اغتيال. لكل موت حسابه. من يموتون في حادث مدبر أو غير مدبر لهم حساب آخر. أنا فقدت أبي وأخي في حادث، وكدت أخسر نفسي أيضاً بالطريقة ذاتها. هل هناك من أقاضيه على ذلك، من أطالبه بهذا الدين. لست أدري لكني بدأت أشعر أني أعاود وصلتي بموتاي.
أسمع صوت أمي من وراء أذني ولا تزال نبرة اللوم غائرة فيه. يفاجئني أبي بزيارة في منامي وكان انقطع عني من سنين طويلة. أما أخي الذي وجدناه وقد طوّح به موتورسيكل في حفرة ولم نعرف إلى الآن إذا كان سقط من تلقائه أم ألقت به سيارة مداهمة، أخي الذي غاب عني من أكثر من 50 عاماً، فألوم نفسي كل يوم لأني لم أعد أتذكر طلعته ولا أجزم إذا كان في أحد ولديّ شبه منه. كنت أترك لأختي أن تقرر شيئاً كهذا، فأنا لا أحسن التقاط الشبه، ومن قديم كانت قريبة لي قادرة على تميز الشبه بين فردة حذاء ووجه طفل، بل بين صفحة صخر ووجه فتاة، وبين منزل ومشية رجل، وبالطبع بين وجه ووجه.
بقيت أياماً جنب سرير أخي وقد تورم رأسه وغرقت ملامحه في الورم. كان يتنفس فحسب وأنفاسه تتجرجر بصعوبة. كانت الحياة قد انطفأت ولم يبق سوى صرير هيكل محطم. بقينا جنبه ننتظر موته الذي لم يتأخر. أتى هذا الموت ليحررنا من تخشبنا، من وقوفنا الأجوف، من انتظارنا اللامجدي. تمنيناه في لحظة من انتظارنا اللامحتمل بعد أن صارحنا الطبيب بأن لا أمل. وحين حدث ذلك خجلنا من أننا لم نصبر أياماً قليلة. بعد سنين سيقول لي عبد اللطيف إنه تعذب بعد أن تمنى لوالدته المنازِعة الموت. اغتيل عبد اللطيف بعد سنوات ولم أتمنّ له الموت لكني أنذرته بأنه سيموت إذا استمر في الصعود إلى القرية. لقد تصورت موته، رأيته ميتاً قبل الحادث ولا أستطيع أن أبرئ نفسي من الرغبة في أن أعيش دراما فقدانه.
لم أشاهد السرطان وهو يلبس وجه بسام رغم أني رأيته في المستشفى قبل العملية. سمعته فحسب يقول لي إنه من أشهر لم ينم. زرته في اليوم التالي. كانت العملية ناجحة كما فهمت. قال له الطبيب إنهم نجحوا في إنقاذ العين. كان هناك خوف من أن يكون السرطان تسرب إليها. لم أر أيضاً وجه بسام في الضمادات لكني أذكر أن جنبه الآخر كان طبيعياً. قال لي بسام إنه الليلة سينام. لا أعرف إذا كان نام. سافرت بعد أيام وأنا أكيد من أنه سينام وسينام طويلاً، فقد رأيت وجهه (أي الجانبين) ولم يكن مصاباً. بعد وقت سمعت أنه لا يزال يعاني. صبرت أياماً على هذا الخبر ثم تلفنت له فقالت لي زوجته إنه في المستشفى وأنها تكلمني من هناك. ذهبت إلى المستشفى وفهمت أنه ينزف حياته. لم أحتمل أن أراه في الصباح. كان انطفأ. لم أكن رأيته منذ أشهر. فمنذ سكنت في بيروت وبقي هو في صيدا افترقنا. كنا نتخاطب عبر التلفون ونلتقي إذا مررت لرؤيته في مكان عمله. كان لدينا أسباب كهذه، أما الحقيقة فهي أننا وصلنا الى العمر الذي يكتفي فيه الناس ويقل سعيهم إلى لقاء الآخرين. بل يقل سعيهم إجمالاً.
في مطلع شبابنا كنا رفيقين. كنا نكتب كل على حدة، لكنْ كأننا نعمل في ورشة مشتركة. كنا مختلفين بالطبع لكن كنا كمن يستعمل نفس الأدوات، نفس الموضوعات، بل نفس الكلمات تقريباً. كنا مع ذلك مختلفين فعلاً. هو يكتب تقريباً ما في نفسه وأنا أبتعد وأحوّر. هو لا يخشى العاطفة وأنا أتجنبها. هو لا يتجنب الإيجاب وأنا أكتب السلب. هذا ما صرناه بعدئذ. أما في البداية فلم نتبين الفرق. كنا كمن نعمل معاً. كنا نكتب عن البيت وعن المطبخ وعن الأشياء المستعملة. بعد ذلك استمر هو يكتب عن بيته وعن موتاه وعن حاله، واستمريت أنا أكتب سيرتي التي توهمتها أوسع، وحين مات كتبت عن غيابه كتاباً كاملاً. لقد استمرت شراكتنا وقتاً بعد موته، وقد يكون هذا الكتاب هو عملي الشعري الأخير، قد يكون آخر شراكتنا، آخر هذا العمل الذي بدأ باثنين وربما استمر بافتراض اثنين. في الحقيقة كان دائماً أول قارئ يخطر لي. أحسب أنه كان يفكر بي كلما نشر قصيدة.
في سنيّه الأخيرة كان صمم على أن لا يكون محتاجاً إلى أحد. كان لديه هذا التصميم على أن يكون وحده. لم يغلق بابه لكنه ما عاد يزور أحداً. كان مضيافاً إذا طرق أحد بابه. بل يدعو ويسرف في الكرم. لكنه لا يطيق المبيت في غير بيته، وربما لا يطيق الجلوس في غير بيته. لا أعرف ماذا شعرت لدى وفاته. ربما ذلك الخوف من لا أكون شعرت شيئاً. ربما الخوف من أن لا يكون بقي فيّ شيء يشعر. ربما أن الشعور الوحيد المتبقي لنا هو التأنيب لأننا لا نجد شعوراً. أعرف نساء قلائل يحزنّ بعد فقد أولادهن. أظن أن هذا هو الجواب البسيط على ذلك الفقدان. الحب لا يقضي بأقل من ذلك. لكن الأمهات والآباء في الغالب يتحاملون على أنفسهم ويتابعون الحياة. الحب لا يمنعهم من أن يضيفوا إلى حياتهم سنوات أخرى، هذا بينما ينتحر الناس لأقل سبب، العمليات الانتحارية تتم غالباً لأي سبب. هل يكفي الشوق إلى الجنة سبباً لاستعجال الموت. ومن هو الأكيد من الجنة؟ القساوسة والرهبان والمشايخ أحرص على الحياة من الهراطقة وقليلي الدين. مع ذلك نجد في القاعدة في العراق وأفغانستان وباكستان أعداداً متزايدة للعمليات الانتحارية. أهي العقيدة تعطيهم دافعاً أم أنها الرغبة في الانتحار اتخذت لنفسها هذا الدافع، هؤلاء الذين يخرجون إلى التظاهر كل يوم تحت خطر الرصاص، مئات وآلاف يخرجون إلى التظاهر ويبقون معاً في هذه العملية الانتحارية. هل يمكن أن نسمي هذا بروفا انتحار جماعي. مع ذلك فإن قلة هم الذين يفعلون ذلك حزناً على أولادهم وأحبائهم. أقل منهم الذين يتراجعون عن الانتحار بعد أن شرعوا به. لا أعرف كيف يقضي هؤلاء يومهم الأخير، هل ينامون، هل يأكلون، هل يمتعون أنفسهم بشيء؟ هل صحيح أنهم يرتقبون أن يرفعهم الله إلى الجنة فور موتهم وهناك يكتب لكل منهم عدد من الحور العين وبالطبع الطعام والشراب على قدر ما يحبون؟ ألا تساورهم ذرة شك في أن يكون هذا المأمول أكيداً؟ ذرة شك واحدة قد تردعهم عن قرارهم، أم أنهم يذهبون وقد كرهوا الحياة إلى حد يبيعونها فيه بأي أمل ولو لم يكن مضموناً؟ أيكونون اشتهوا الموت أساساً واشتروه بوعد لم يسألوا عن ضمانه؟
قال لي حسن بعد وفاة بسام إنه قال له قبيل وفاته أثناء مروره على مقر الصحيفة التي يعمل فيها، إن الكحول صار ماء في فمه وأن الطعام صار رملاً. هذا يعني أنه (بسام) عاش هكذا شهري رلى. أ. لقد صارت الحياة رملاً وماء في فمه. أخبرني حسن بهذا بعد أشهر على وفاة بسام. لو قالها لي في حينها لما دريت ماذا كانت فعلت بي. مع ذلك صدمتني وطويتها مع كل ما يمت إلى بسام. ماذا يعني أن تكون الحياة رملاً وماء. أي شيء أكثر وحشية من هذا. أن تطبخ لنا نفوسنا رملاً. أن تمتلئ بطوننا بالرمل. أن يصرص الرمل تحت أسناننا قبل أن ينزل في بلعومنا ويتكدس بعد ذلك في معدنا. ماذا سنكون حين نغدو محشوّين رملاً، الرمل الذي هو آخر ما يمكن أن يكون لطعام. أي تعذيب أكبر من أن نجبر إنساناً على أن يأكل رملاً، أي فظاعة أكبر من أن يتكوم الرمل في داخلنا. أي عقاب أشد من أن تكون هذه خاتمة الحياة وآخر عهدنا به. أن ننهي الحياة بهذا الفصل المرعب. أن لا يغدو لأي شيء طعم وكأن حياتنا نفسها فقدت طعمها وانتهت في الفضلات. أن يكون كل ما عشناه، كل ما هو تاريخنا وكل ما هي ذاكرتنا اختفى فجأة في بالوعة وكأن جسدنا لم يعد له من وظيفة سوى أن يقتل الحياة في داخلنا. سوى أن يطعمنا رميمها. سوى أن يقيتنا بنفاياتها. أليس العذاب هو أن نعيش هكذا شهرين يسلخان عن حياتنا كل متعة عشناها، كل سرور وكل لذة عرفناها. هكذا نعيش موتنا قبل الموت، بل أسوأ من الموت، ونعرف في الشهرين هذين أننا نأكل موتاً وأن هذا هو طعم الموت. نأكل موتاً ولجبننا على أن ننتحر فإننا مقيدون إلى هذا الموت لا نجرؤ على أن نفك قيدنا، ليس هذا سوى الموت يرفض، سوى نحن نرفض الموت. نتذوقه نأكله ونشربه، نعيشه وما نحسبه حياة ليس سوى القدرة الفظيعة على الغثيان والقرف والألم الذي يسحق العظام. ما نحسبه حياة لن يكون سوى القدرة على الغثيان والسأم والرعب من الحياة. ما نظنه حياة سيكون بالتأكيد أسوأ من الموت. إذ ذاك ما نسميه شجاعة أو مقاومة لن يكون سوى أكل النفايات، سوى الغرق في الفضلات. لن تبقى هناك قيمة من أي نوع لم تتحول إلى رمل وماء. ستكون إنسانيتنا هي فقط هذا الرمل. ستكون معاناتنا هي ذلك الماء. ستكون التراجيديا ولكن نوع سقيم من التراجيديا. التراجيديا بدون اي قيمة. سيكون مصيراً سيزيفياً إذ ما من ترجمة أفضل منها للأسطورة بدون أن تكون أسطورة وبدون أن تكون شيئاً سوى طعم الرمل.
قابلت رفيق قبيل وفاته. كان ذلك في غرفة صغيرة في بيته. لعلها كانت ذات يوم حجرة للخدم. انتقل إليها مع سرير حديدي وغطاء أجرد فوق السرير. كان وحده في هذه العلية. كأنه انفرد هكذا عن عائلته التي لم أصادف أياً منها في الحجرة. لا بد أن البيت العائلي صار مكاناً آخر، وترك الفيل المحتضر في هذه العلية. قال لي رفيق إنه يتفرج فقط على محطة تلفزيونية تعنى بالعلوم والتجارب الشخصية. لقد مل الخيال وهو الآن يستروح قوة من الواقع المباشر. الواقع الحي الراهن الموجود وليس تاريخ الأموات وبلد الأموات. قال لي إنه يقضي نهاره يشرب شاياً بالليمون وأنه بالليمون يصد الغثيان.
الغثيان هو النفس التي تتقلب والطعم الدخاني العالق بالحنجرة والذي مع ذلك يتقلب في المعدة والصدر، يتقلب في الداخل كله. أي شيء هذا سوى تقلب الموت نفسه وطعمه وفكرته؟ أكتب الآن وأنا أتذكر قولة ناظم من أن الواحد لا بد في الستين من أن يفكر جدياً في الانتحار. فشهرا رلى هما عقوبة توازي الحياة كلها. النهاية واحدة كما يقال لكن الأكيد أن تغلب النفس على صاحبها وتقلب الجوف وتقلب الصور، وابتداء الموت في الحياة هو نهاية، ليست أي نهاية، وبدلاً من أن تتفاضل الحيوات فالأحرى أن تتفاضل النهايات.
وصلت إلى المطار بعد مرور نصف ساعة من الساعتين اللتين ينبغي أن تسبقا موعد السفر. كان المطار مزدحماً. مطار بيروت يزدحم في أوقات ويخلو في أوقات، وهناك أشخاص لست منهم، يحسنون رصد أوقات الازدحام وأوقات الخلو. كنت خائفاً أن يفوتني الموعد. ذلك أكسبني جسارة قلما تتوفر لي، فأخذت أدافع الناس خلسة وأحسّن موقعي خطوة بعد خطوة.
استطعت وأنا أدير حقيبتي بين الواقفين وأغتنم فراغاً قصيراً لأتقدم قليلاً وأعتذر حينما أحتك بواحد وأتراجع حينما تنبهني واحدة، استطعت أن أداور بدون أن ينتبه لي أحد تقريباً، وأخيراً تجاوزت الأمن العام وصرت حراً. كان في يدي بطاقتان إحداهما إلى فرنكفورت والثانية إلى درسدن. كانتا من شركة لوفتهانزا ولست معتاداً على بطاقاتها، لذا لم أحسن معرفة أين تكون صالة الانتظار وأين يكون رقم المقعد. استفسرت من شرطي ففهمت، ليس بدون تعجب، أن صالة الانتظار ذات رقم 19 وأن مقعدي في الطائرة إلى فرنكفورت هو ذو الرقم 19 وصالة الانتظار في فرنكفورت هي A 19 ومقعدي في الطائرة إلى درسدن هو أيضاً ذو الرقم 19. أنا أفضل الأرقام المفردة لكن رقم 19 لا يعني لي شيئاً، وأنا حتى بيني وبين نفسي لا أقيم للأرقام اعتباراً. لا أتفاءل بها ولا أتشاءم منها. لكن رقم 19 تواتر أربع مرات. تساءلت إذا كان هذا إنذاراً أم عكسه. إذا كان علي من الآن أن أعتبر الرقم 19 خاصاً. لم يزد الوقت بين طائرة فرنكفورت وطائرة درسدن عن 25 دقيقة. كنت أحسب أن ثمة توازياً غير منظور بين مواعيد السفر وإجراءات المطار. لم أقف طويلاً قبيل الوصول إلى الأمن العام لكن الموظفة طلبت مني الدعوة، وأنا أسافر كل عام إلى ألمانيا ولم يسبق أن طلبت الدعوة مني. جادلت الموظفة التي لا تعرف الفرنسية وقصدت أول من يعرف الفرنسية ليترجم لها. وأخذنا وأعطينا قبل أن تذعن الموظفة وتخلي سبيلي. قبل الوصول إلى الصالةA 19 كان علي أن أقف مجدداً أمام البوليس في صف طويل ظللت أتقدم فيه إلى أن بلغ دوري، وكان علي هذه المرة أن أخلع حزامي وجاكيتتي وأن ألقي كل ذلك مع حقيبتي في وعاء بلاستيكي. انتهيت من كل ذلك وعجلت إلى 19 A لكن الطريق كانت طويلة وأخذت أتعرج فيها وأهبط إلى أن وصلت إلى 19 A لاهثاً فوجدت الموظفة التي قالت إن الطائرة أغلقت ولم يعد هناك مجال. لقد انقلب علي الرقم 19. جادلت ما في وسعي فأصرت الموظفة أن ليس في يدها أي شيء ودلتني على الصالة رقم 22 وقالت هناك يبدلون لك البطاقة بغيرها. وصلت بعد جهد إلى الرقم 22 A وشرحت حكايتي للموظفة التي صادف أنها تعرف الفرنسية، في الحقيقة نادوا لي على موظفة تعرف الفرنسية، فأبدلت لي البطاقة وكانت صالة الانتظار هذه المرة 05 A. لقد تحررت من الرقم 19 لكن بأي ثمن. كان هناك بالتأكيد شخص ينتظرني في باحة المطار من قبل لجنة المهرجان الذي أنا آتٍ بدعوة منه. هذا الشخص لن ينتظرني إذا لم أصل في موعدي ولن يتأخر ساعتين عن موعد وصول الطائرة الثانية. من يدريه أنني لم أستطع الوصول في الموعد، من يدريه أنني سأصل في طائرة أخرى؟ ثم أني لا أعرف المدينة ولا أملك نقوداً باليورو، فقد أنساني انهماكي أن أبدل باليورو. لا أعرف المدينة ولم أحضر معي الدعوة، فأنا لا أعرف عنواناً أي عنوان لأتصل به في المدينة. تيقنت وأنا أنتظر في الصالة 05 موعد الطائرة أنني لن أجد أحداً في انتظاري والوقت شارف منتصف الليل وأنا بلا نقود ولا أعرف الألمانية. لم أصادف في حياتي تجربة كهذه. أن أهيم على وجهي في مدينة لا أعرفها ليلاً كاملاً. ثم ما يدريني أنني سأجد حلاً في الصباح. قلت هذا للموظفة وقدمت لها المستمسك الوحيد عندي. رقم تلفون لجنة المهرجان الباقي على تلفوني الخلوي. اتصلت به وكان الوقت ليلاً فلم تجد أحداً. اتصلت بالمطار وأعلمتهم فوعدوها بأن يذيعوا الخبر ليعرف الشخص الذي ينتظرني بمشكلتي. لكن الشخص قد يصل مع وصول الطائرة وتكون إذاعتهم ذهبت هباء.
كنت أفكر هكذا حتى وصلت الطائرة. انتزعت نفسي من مقعدي وأنا أواصل حساباتي. وصلت إلى صالة الحقائب ولدهشتي رأيت حقيبتي تصل. لقد حققت الموظفة معجزة نقل الحقيبة من طائرة إلى طائرة. خرجت مكتئباً ورأيت فتاة نحيلة تقف، اقتربت فقرأت اسمي. قالت لي إنها انتظرت حتى آخر طائرة. لم أكن الأول الذي فاتته طائرته. هذا متوقع ولهذا انتظرت حتى الطائرة الأخيرة.
لم يخب الرقم 19 الذي لا أعرف ماذا حمل إلي. كلما سافرت ولو لأيام قليلة شعرت بأن هذا السفر حد لا أستطيع أن أفكر بما بعده إلا بصعوبة، فهذا الحد يبدو وكأنه نهاية قد تكون نهايتي. أفكر فيما بعده بشكل آلي وكأني لا أقدر على تجاوزه إلا بقدر الاعتباط. لا أعرف ماذا يقول لي الرقم 19. قد تنبئ بالنهايات الفظيعة رسائل وإشارات أقل شأناً. أكرس خيارات لما بعده لكي لا يظن أنه فعلاً يخيفني لكني لا ألبث أن أقف عنده. ما بعده ليس سوى رسوم لا واقع لها. أذهب إلى المطار واشحذ شجاعتي على أبوابه. لكن الموعد نفسه يظهر عند ذلك باباً وهمياً. رأيت الفتاة في انتظاري في ساحة المطار. لم أستطع أن أقول لها كم أنا ممتن. كم أنا مقدر لما فعلته. لكني قلت لها كثيراً وأصغت إلي لكني لم أرها منذ ذلك الحين. أوصلتني إلى الفندق وعادت إلي وأنا في صالة الفندق ومعها رقم الغرفة. هالني أنها الغرفة رقم 19. الرقم لا يزال في طريقي. إن عنده ما يقوله لي. لم يتم رسالته. لا أعرف ماذا يخبئ وإلى أين يقودني. وأنا أكتب هذه العبارة أشعر بالخوف من الغد.
في غد أغادر الفندق. هذا "الحمو" منذ شهرين في فمي. يصنع من وقت لآخر فقاعة تعيش ساعات ثم ترتخي ربما بقصد. فأنا ما إن أشعر بها حتى تداهمني حيرة تجعلني أظل أتحسسها بفمي وأسناني، وربما لهذا ترتخي. لكنهما شهران وربما أكثر. إنها في حجمها ومكانها تقريباً منذ ذلك الوقت. في الأمر ما يقلق. لكني الآن أتذكر ما قاله لي مدربي الذي كان يزورني وأنا ممدد على ظهري غير قادر على المشي. كان يزورني كل يومين تقريباً ويدربني على حركات أقوم بها برجلي ويدي. رقدت على ظهري شهرين وصرت مع الوقت شديد الضجر من هذا الاستلقاء. بدأت أحس أنني معاقب بأن أبقى مصبّراً في موضعي ولا أقدر على تجاوزه بمترين. شعرت أن المشي هو كالبصر والسمع ملكة حيوية. إنني بدونه أعمى تقريباً. بدونه لا أتمتع ببصري وسمعي، كان علي أن أمشي لأستردهما. كان جهازي الهضمي والتنفسي ينتظر ذلك أيضاً. لذلك كنت أتعاون مع مدربي وأجتهد كثيراً لأقوي قدمي ويدي، قدمي بوجه خاص. أمارس الحركات التي يطلبها بهمة وأعيدها في غيابه. كنت أتقدم وقدماي تكتسبان بسرعة قوة. كان المدرب شاباً لطيفاً يعاني من شيء يشبه الجرح في عينه. كنت أرى أنه لا يناسب مهنته كمدرب. كل يومين كان يأتي إلى بيتي ويجدني أتقدم. قال لي مرة وهو يجدني أتذمر من نفسي إنه يصادف رجالاً في عمري لا يبذلون أي همة ليتقدموا وكأنهم في سرهم مرتاحون لكونهم لا يمشون، فهم في حقيقة الأمر يجدون ذلك أكثر راحة لهم. جوابه الغريب جعلني أفكر بما قاله حسن مرة عن حماته التي أقعدتها بدانتها، من أنها لم ترتح في يوم كما ارتاحت حين أقعدت. فمنذ ذلك اليوم وجدت العذر لكي لا تقوم بأي حركة ولكي تأمر من مكانها فتُطاع. أدهشني جواب المدرب. لقد فكرت بأن هؤلاء يشبهون في الحقيقة الموت الذي نعتبره في العربية إحدى الراحتين. إنه حب للموت يتظاهر بذلك الكسل عن كل نشاط وكأن المطلوب أن يتخشب الواحد في مكانه ويتيبس.
بعدما بدأت المشي كنت أضع خطواتي. أضيف بذرة إرادة الى حركة قدمي الآلية، أهبط برجلي اليمنى المخيطة تقريباً بصعوبة على الأرض. اسمع بجسدي كله دبتها على الأرض. أشعر هكذا بأنني أدير جسمي، أحرك يدي ورجلي كما أريد وعلى راحتي. ننسى أجسادنا حين نتحرك كآلة. لا نعود نعرف نعمة أننا نملك جسداً واقفاً وأننا ننتقل على اثنتين. لا نعود نعرف ميزة أن نكون بشراً. ركبت لنا عيون في وجوهنا ومن أعلى قاماتنا نحاور الفضاء بأعيننا وآذاننا وأنوفنا. الفضاء ينتقل إلينا عبر أجهزة تعمل بدون أن تتداخل وتشوش على بعضها، لكننا نعبر غالباً بآذان قاتمة وأعين ساهية وأنوف شاردة. لا أحد يتساءل عما مر على بصره بدون أن يراه. لا أحد يتساءل عما مر على أذنه بدون أن يسمع، ومر الى أنفه بدون أن يشم. نحتاج إلى بذرة إرادة لنشعر بذلك كله، بدون ذلك نكدس صوراً وروائع وكلاماً بدون معنى. أتعجب كلما ركزت عيني مما فاتني أن أبصره. أشعر أن العالم يغيب عني دون أن أراه. الحيوانات تستدل بالرائحة. الحيوانات ترفع آذانها لتستشعر الحظر ولتعرف ما ينتظرها. لا تفوتها رائحة ولا صوت. أنا أمر وأشعر أن ثلاثة أجهزة تعمل في رأسي بدون أن أسمع حتى حسها وهي تعمل.
إنها تعمل وقد خلفت وراءها الكثير الذي صنعته. الكثير من الصور والروائح والأصوات. كيف أكون أمضيت اليوم وقد تركته بكامله ورائي. أشعر بأني آلة. قدماي لا تختلفان عن عجلتي آلة. بذرة إرادة لا بد منها لنعي ما يستقبله جسدنا، لكنها بذرة إرادة تضاف إلى أعيننا. بذرة أخرى تضاف إلى آذاننا. بذرة تضاف إلى أقدامنا. ثم نتعب من هذا الوعي المعاقب والمصلوب ونستعجل الرجوع إلى سهونا. حين أكتب أبقى في وعيي. بل أروّسه حتى يغدو خيطياً ومسنناً، أخترقه إلى عمقه لكن الوعي عندئذ يعمل وحده بل يغطي على كل ما سواه. إنه يسمع نفسه ويراها ولا يصل إليه صوت ولا صورة إلا من داخله. الحيوانات لا تشرد. الغريزة تبقى مستيقظة، أما العادة فعمياء.
كان ذلك بعد الظهر، في اليوم الرابع والأخير لي في درسدن، زرت في الصباح متحفاً وشاهدت فيه معرضاً كاملاً لغيرهارد ريختر وثلاث لوحات لبازليتز وثلاثاً أيضاً لكوكوشكا وثلاثاً لمونيه، أما الفنان الذي افتقدته ولم أفهم سبب غيابه عن متحف ألماني فكان كيفير. لم تكن الحصيلة كبيرة، أهم ما فيها ثلاثة تماثيل في الفناء لفتاة في الستة والثلاثين عاماً سجلت اسمها على ورقة فقدتها وبقي في الذاكرة. اسمها الأول ستيللا. التماثيل عبارة عن رجال شبه متوحشين يلتفون حول أجسادهم بجذوع ضخمة. كانت هناك كمية هائلة من التماثيل مخزونة وراء الزجاج في جوارير ضخمة مطروحة على الأرض. لقد فصلت من أعداد كبيره من التماثيل نصبت في صالات واسعة. إلا أنني شعرت بمواساة تجاه تلك الرؤوس المصفوفة على الأرض والتي شق علي أن أقرأ أسماء نحاتيها. بدت لي كأوان زجاجية مصفوفة فوق رفوف المطبخ. كانت متجاورة وقد فقدت في جوار بعضها البعض أي خصوصية. بدت هكذا كجمهور سفلي. كنت شبه سعيد وأنا أنتقل في هذا القصر السحري الذي تتفتح فيه الغرف من داخل بعضها البعض. ورغم أنني لم أنسَ أنها في معظمها شغل أموات، عضضت على ذاكرتي وتجاوزت هذه الغيمة السوداء.
كان ذلك بعد ظهر اليوم. شعرت بتلك الفقاعة تحت شفتي. لا أدري كيف نجمت. لم تكن في الصباح. تذكرت أن الطبيب قال لي "إذا روجَعت تعا لعندي". لا أدري إذا قال فوراً لكن تراءى لي أنه يلقي أهمية على هذه "الروجعة".
كانت الرحلة نسبياً مريحة، وجدت القاعة الأرضية لمطار درسدن خالية تماماً. درت فيها إلى أن أشار لي مسافر لحقته بالسؤال إلى الطابق الأعلى حيث وجدت المكاتب والركاب. في فرنكفورت ركضت إلى A 27 لكنهم قالوا لي هناك إن الموقع هو في A 44. عجلت إلى الموقع ووصلت قبل الموعد. امتنعت عن الكتابة رغم أنني تعجبت من جلدي الذي بقيت أشك أنه عائم على تهافت داخلي. كتبت بسهولة واجبات يومية لكني استكثرت على نفسي أن أكتب شيئاً خاصاً. ما إن وصلت إلى بيروت حتى تلفنت إلى عيادة الطبيب وطلبت موعداً حددوه بعد ثلاثة أيام، لكني في اليوم الثاني حصت واضطربت إلى أن تذكرت أنه اليوم الثاني وأن أمامي بعد يوماً من الانتظار.
في اليوم الثالث كنت أهدأ، لقد أنفقت اضطرابي في اليوم الذي سبق لكني لم أكن جامداً. بقيت في الصباح أقطع الوقت إلى أن وقعت عيني على كتلة ورقية مع الـ Romeron، وهو دواء ضد الاكتئاب أتعاطاه منذ خرجت من المستشفى، وقرأت فيها أن من آثاره السلبية شيئاً يتعلق بالعين. قرأت هذا وقطعته وقفزت إلى فقرة ثانية، لكني لدى مراجعتي رأيت أنني لم أكمل قراءة الفقرة الأولى ولو فعلت لرأيت أنها تعد من بين هذه الآثار احتقان الحلق وقرح الفم. وجدت إذن سر هذا القرح الذي تجدد مرات طوال شهرين، ارتحت ووضعت الورق في جيبي وذهبت إلى موعدي مع الطبيب وفي ذهني أن أجد طريقة أبلغه فيها بما قرأته.
وصلت على الوقت تماماً. خشيت أن أصل قبله لكن السائق سلك طريقاً أطول. صعدت إلى الطابق الخامس وانتظرت حتى نودي علي واقتُدت إلى عيادة الطبيب الذي تأخر كعادته في الغرفة الثانية ثم جاء منها واستقبلني بحفاوة فبيننا معرفة وإلفة. تحدثنا عن الرسم فدلني على لوحة في عيادته تمثل منحوتة لامرأة حاملة مشعلاً ومن الجهة الثانية نحت رجل يلتفت إليها بعين جائعة وبين الاثنين ما يبدو أنه لوح منقوش لكنه مكون من ورق يابس. هذا ما لفتني في اللوحة وقلته للطبيب الذي كان بالغ الإعجاب بها. سألني عما بي فكلمته عن القرح الذي "روجع". طلب مني أن أنتقل إلى كرسي الفحص ففعلت. فتح فمي وكانت هذه مناسبة لأبلغه بما قرأته في الورق، فقال لي إني سليم تماماً ولا أعاني من شيء. سألني لماذا أتعاطى Romeron فقلت له إنني أتعاطاه بعد الحادث، فقال إن نفوسنا تضخ ما نشحنه فيها. لم يكن هناك جديد في هذه الفكرة لكني لما قلت له إنني في الخامسة والستين قال لي بقي لك على الأقل خمس عشرة سنة. كنت قلت هذا مراراً لنفسي لكن سماعه من شخص آخر جدد قلقي. تمنيت لو أسأله كم بقي له شخصياً، لكن عمره كان يغطي الحائط. عشرون بروازاً على الأقل تحمل اسمه وشهاداته.
فكرت في دينه. كان اسمه وارداً في ثلاثة أديان على الأقل. كنت أريد أن أعرف إذا كان مؤمناً، وإلا فماذا تعني خمس عشرة سنة باقية. حينما أفكر في الدين أفكر غالباً في هراطقة ومنشقين. هؤلاء في الغالب وصلوا إلى بعض الأسرار وأحياناً امتلكوا قوى غير عادية. داهش مثلاً تبعه أشخاص من أعمدة المجتمع وروى عنه عقلاء غير مهووسين معجزات احتاج تسجيلها إلى موسوعة. كان يختفي ويظهر بما يشبه اللمع في مناطق متباعدة ويخرج بعدة شخصيات في نفس الوقت. لن نصدق أنه أحيى عصافير ميتة لكننا لا نستطيع أن نشكك بعشرات الشهادات التي نسبت إليه أعاجيب أقلها تحويل ورق عادي إلى نقود ومعرفة الأرقام الرابحة قبل سحب اليانصيب. لكننا نتعجب من رجل بهذه المقدرة يصر على أن يصبح كاتباً ويظن انه تقمص لجبران خليل جبران الذي يقلده في لغة ركيكة. نتعجب من كونه يقترح أفكاراً على رسامين ليكون شريكاً في اللوحة.
مقدرته في هذا المجال تقل كثيراً عما يعتبر طاقته الروحية. لا أعرف كيف كانت صلته بالمال لكنهم يروون عنه أنه كان يتروى في الشراء، هو الذي يستطيع أن يحول ورقاً عادياً إلى نقود. هذه التفاوتات لا تجعلني أنسى أنه أقنع أطباء وأساتذة جامعيين ورجال أعمال تركوا دين آبائهم وتبعوه. هذه المقدرة جعلت طوائف تخشى على نخبها من أن تهجرها وجعلت دولة تلعب لعبة الطوائف تتصدى له. نشعر أنه يعتبر نفسه تقمصاً للمسيح لكنه بخلاف المسيح ضحك على الذين صلبوه وأسلم إليهم واحدة فقط من شخصياته العديدة. لكننا لا نفهم كيف يصرّ رجل بهذه المقدرة على أن يكون كاتباً رديئاً. أما كان يكفيه أن يعتبر نفسه نبياً، ثم هل على الأنبياء أن يكونوا شعراء وكتاباً جيدين؟ هل عليهم أن يكونوا كتاباً أساساً؟ ألا يكفي داهش أعاجيبه؟ لماذا كان يريد أن يصنع أعجوبة في اللغة؟ كنت أنظر إلى اللوحة التي رأيتها معلقة في عيادة الطبيب وأنا أفكر بداهش. مثله أراد الرسام أن يكون نحاتاً، ماذا كانت الشعلة تعني وهي يد تمثال؟ أما الرجل المغوي في الناحية الثانية فكان منسوخاً تقريباً من لوحة الربيع لبوتيشيلي. وحده ذلك النقش الذي امتلأ بورق يابس صنع شيئاً. هل علينا أن نبحث عن المعجزة في الورق اليابس أم في ورق اللعب الذي يتحول إلى نقود؟.